اختيار ولي العهد تزكية من القيادة للمشاركة الفاعلة في حاضر الوطن ومستقبله، في الحاضر يؤكد الكفاءة والإخلاص والقدرة على معاونة قائد الدولة لتحقيق أهداف الوطن الكبرى وحماية مكتسباته، وفي المستقبل يعني التصدي لقيادة الوطن وتوطيد وحدته وصيانة حقوق أهله وكرامتهم والمحافظة على قيمهم وثقافتهم وتطوير مؤسسات الدولة لحفظ مسيرة الاستقرار والتنمية.

بالأمس غيب الموت رجل الدولة الحكيم المجرب نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، وهو الذي تحمل مسؤولية "الأمن" بمفهومه العام في فترة بالغة الحساسية، اتسعت فيها الاضطرابات الدولية والنزاعات الإقليمية وظهرت فئة من أبناء الوطن "تورطت" في خطيئة توجيه السلاح إلى أهله لإفساد ما ينعم به الوطن من استقرار أدى إلى ما نشهده من تنمية. وكان على قطاع الأمن أن يواجه كل هذه التحديات ويتعامل معها بكفاءة وحزم وإصرار دون أن يعطل مسيرة التنمية. وتطلع إنسان هذا البلد إلى التفاعل مع القيم والأفكار الإنسانية السائدة في العالم.. وقد نجح الأمن في أن يحقق تلك المعادلة حين نقل مفهوم الأمن من صورته التقليدية التي تحصره في دائرة مكافحة الجريمة والوقاية منها إلى مفهوم عام يرتبط بالرخاء والاقتصاد والتنوع الثقافي والفكري، وتوفير البرامج والمعاهد والمراكز الفكرية التي تخدم هذه المفاهيم الحضارية. وكانت نجاحات هذا الجهاز موضع تقدير الكثيرين، لأنه استطاع أن يواجه التحديات بروح الإصلاح وتصحيح الأخطاء، لا بنزعة الانتقام وبث الخوف في عقول الناس وأرواحهم.. لقد نجحت القيادات الأمنية في أن تربط دورها بمفهوم "الحفاظ على الوطن"، مما أدى إلى أن يستشعر المواطن – بصورة تلقائية – أنه جزء من هذا المفهوم ومرتبط به وعنصر أساسي في تحقيقه ونجاحه..

ويأتي قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز باختيار الأمير سلمان بن عبد العزيز وليا للعهد ليؤكد استقرار الوطن وحرص القيادة على اختيار الأصلح للمسؤوليات الكبرى، والتفاف الأسرة الحاكمة حول الملك والترحيب بقراراته، وهو الأمر الذي "تخوض" فيه بعض الدوائر الخارجية ووسائل الإعلام التي لم تستوعب حقيقة "القيم" التي تؤثر في العلاقة بين الملك وأسرته وأبناء شعبه. ويغيب عن بعض المهتمين بالشأن السعودي في الخارج – بغض النظر عن دوافعهم ـ أن اختيار الأمير سلمان لولاية العهد يستند إلى أنه الأجدر والأكثر قبولاً من جميع أعضاء الأسرة المالكة، فهو أمين سرها وراعي أفرادها، المهتم بتفاصيل حياتهم وعلاقتهم بهيئات المجتمع ومؤسسات الدولة، ويحظى بتقدير وحب شبابهم، لأنهم يرون فيه "عمادها" القادر على حفظ توازنها وعلاقتها، ويحظى بحب واحترام وثقة السعوديين كافة، لأنهم يعرفون ثراء خبراته ومهاراته التي اكتسبها في خدمة وطنه لعشرات السنين وحضوره الوطني والعربي والدولي.

والأمير سلمان رجل دولة أهلته مكانته ومواهبه وقدراته لتولي ولاية العهد في ظروف وطنية وإقليمية ودولية لها استحقاقاتها التي تجعل وقوفه إلى جانب أخيه خادم الحرمين الشريفين بالغ الأهمية، ويتطلع إليه أهل هذا الوطن بالتفاؤل الكبير لما يعرف عن سموه من حسن التقدير والبصيرة النافذة والتعامل مع الواقع بما يحقق مصالح الوطن.

والمملكة العربية السعودية دولة مركزية في منطقتها العربية ومحيطها الإسلامي وعضويتها في الأسرة الدولية، وينظر إلى ما يجري فيها بالكثير من الاهتمام، لأنها دولة قائدة تؤثر فيمن حولها. وفي هذه المرحلة من تاريخها تبرز أمامها "استحقاقات" داخلية وخارجية. ومن استحقاقات الداخل أنها تعيش مواسم "التغيرات" في المنطقة العربية، وهي تغيرات لها تبعاتها ومستلزماتها وتقتضي التفاعل معها بما يضمن استقرار الوطن والدفع بمشاريع "مشاركة المواطنين" في إدارة حياتهم استجابة لرغبة وتوجيه الملك الذي يدفع في هذا الاتجاه ويشجع عليه منذ سنوات. ويرتبط بهذا استيعاب الشباب الذين يشكلون غالبية المجتمع وهم يتعرضون لتحديات في شكل انعدام فرص العمل والشعور بالغبن وإلحاح أفكار التحديث المتصادمة مع الخطاب التقليدي الذي لم يستوعب الفوارق بين الأجيال ولم يقترب من هموم هؤلاء الشباب. كما أن المملكة تمر بمرحلة تنموية، حيث تريد القيادة أن تستثمر عائدات الطفرة المالية لمزيد من رخاء الوطن والمواطن، وهذا يستدعي إعادة "تأهيل" الأجهزة الحكومية الموكل لها تنفيذ مشاريع التنمية بعد أن اتضح فشلها وضعف إمكاناتها وتراجع مستوى تنفيذها، الأمر الذي أدى إلى تعثر الكثير من المشاريع. ويصاحب هذا الاستحقاق برنامج "محاربة الفساد" الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله ويحرص على متابعة تنفيذه بفاعلية. ولا شك في أن مساندة الأمير سلمان لهذا "المشروع الوطني" ستزيد قوته وجاهزيته وتدفع به إلى الامام وتوفر لجهازه التنفيذي الدعم والحيوية القادرة على تتبع مظان الفساد على جميع المستويات، لأن الفساد" داء" في الجهاز التنفيذي وأصبح عائقا يضعف رغبة الدولة في استثمار الطفرة المالية لصالح الحاضر والأجيال القادمة، وتوجيهها نحو التنمية المتوازنة. ومن استحقاقات الداخل، المهمة في رأيي، إيجاد قنوات طبيعية تستوعب اختلاف وجهات النظر داخل الوطن حتى لا تهدر الطاقات في توتير العلاقات بين أطياف المجتمع نتيجة للمناكفات والمنازعات بين المختلفين.

وتبدو استحقاقات الخارج، في هذه المرحلة، متشابكة مع الحراك الجاري على الساحة العربية والإقليمية والدولية وكيفية قراءة "خريطة المصالح" المتصلة بالمواقف المبدئية، فالمملكة دولة مركزية في دائرتها العربية، وهذه المكانة من استحقاقاتها الأصيلة التفاعل مع "الثابت" وترشيد العلاقة معه بما يحقق المصلحة. و"الثابت" في هذه العلاقة هي الشعوب، وتقدير اختياراتها يحفظ للمملكة موقعها العربي وينشط عمقها الإسلامي، فلا يسمح لخصومها "بالتسلل" من بوابة الدعاية التي تحاول أن توهم بأن سياسة المملكة لا تتعاطف مع إرادة الشعوب. و"تقديرات المواقف" المنسجمة مع المبادئ المعلنة غالبا ما تؤدي إلى القرارات الصائبة وتفوت على المنافسين استثمار "التناقض" الذي تنتجه الحركة المتأخرة عن التوقيت السليم.