هل يَجوز - في قانون الكتابة الإبداعية - تغيير لفظٍ مكان لفظٍ إذا (أراد) زمنٌ ما جعلهما بمعنى واحد؟

في (القرآن) سيتفق المسلمون أنَّ ذلك محرمٌ، وتحريمه يَعود لقدسيّة قائلِه عندهم، مع أنَّ المسلمين يهتمون بالمعنى المحدد الذي يَكمُن خلفَ المعتقد لا الكتابة. أليست هذه مفارقة؟

ربما التقطَ هذه المفارقة أحدُ المسيحيين حين قال: «مِن الأفضل السير باعتدالٍ روحي دون وسيط كتابي، لكننا رفضنا الروحَ فلجأنا إلى الكتاب». وبالعموم يهم المقالةُ هذه، أن تُصدّر حرمةَ تغيير الألفاظ -النابعة من قدسية الكتاب- إلى (أيِّ كتابةٍ إبداعيّة)، وذلك بكون اللفظِ المُختار مقدسًا كُتِبَ لذاتِه في زمانٍ ومكانٍ محددين، وارتبطَ بجملةٍ لها تفسيرها المتعدد في ظل وجودها مركبة بهذا الشكل. وهذا أمرّ يُحيلنا إلى ما أورده ابنُ جنَّي في كتابِه (الخصائص) وهو أنَّ بيتَ الشِعرِ قد تتعدّد ألفاظُه، لمعنى واحد، وذلك لتعدد الرواة.

أمَّا في أمر (القرآن) فإنَّ هؤلاء الرواة هم الذين أعدم وجودَهم عثمانُ بن عفان بحرقِه المصاحفَ، وإبقائه روايةً بحرفٍ واحد. لكن ظَلّت محدوديةُ تغيير الألفاظ في محيطٍ (ضيّق)، هو ما سُمي بـ (القراءات)؛ وكأنَّ ما بقيَ ينتمي للقراءةِ لا الكتابة، إلا أنَّ هذا الأمر لم يَخلق في العربِ احترامَ الكتابةِ نفسِها، بل احترام مكتوبٍ بعينه؛ فانظر في أمرِ ابنِ الأعرابيّ كيف روى بيتَ شِعرٍ بلفظين مختلفين، قال ذات يوم: «وموضع زبنٍ»، فأُنكِر عليه، بأنه رواه في مجلسٍ آخر: «وموضع ضيقٍ»، فقال: «تصحبنا منذ زمنٍ، ولا تَعلَم أنَّ الزَّبن والضيقَ واحد».

ولا يُخَاِلفُ ما ذكرَتْه المقالةُ، أنَّ ابنَ الأعرابي كان يُشافِه الناسَ لا يكتب لهم؛ فالقرآنُ كَانَ يُشافَه من جبريل إلى النبي إلى الأصحاب، ثم صار بينهم يُتداول شِفاها، ومع ذلك هو كتاب، ومكتوب.

هذه المقالة اهتمّت -مما اهتمّت به- بفكرةِ أن يُحترم اللفظُ وتركيبُه لذاتهما، فاحترام اللفظِ في الصنعةِ الكتابيةِ سيأخذ الطريقَ ذاتَه الذي أخذه (القرآن)، حين بدأ بحرفٍ واحد، ثم ازداد ليصل لسبعة أحرف، ثم تأسَّس وعيٌ جمعيٌ ليضع القراءة الشاذَّة في حيّزها المختلِف عن الكتابةِ والكتاب؛ ومن ثمّ احتُرم اللفظُ لذاته وموضعه في الجملة؛ إلا أنَّ ابنَ جني أَّلفَ كتابَ (المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها)، ليحتَجَّ للقراءاتِ الشَاذّة التي لها وجه يُطمَأنُّ إليه. وقد يعني هذا أنَّ عواملَ الزمنِ لا بدَّ أن تُغيّر بعضَ اللفظِ، لكنَّ الوعيَ الجمعي يتدخَّل ليحمي بنية الكتاب المستقل، ألا تراهم يقولون: القراءة الشاذّة ليست هي القرآن أما المتواترة فهي عين القرآن؟ فهم يرون أنَّ حكايةَ الشذوذ بدأت مع دخول (شُذَّاذ الآفاقِ) لقراءةِ القرآن، والشُذَّاذ بَحّاثون عن معنى إسلامي لا لفظ لغوي، مع أنَّ المعنى الإسلامي لا يتوالد إلا من اللفظ الذي وُلِد فيه، وهذا ما نجده في فكرة ترجمة القرآن، لا يُقال عنها هي (عين القرآن)، بل (معاني القرآن).

أمَّا وقد انفصلَ العربُ عن المعنى الواحد، ودخلوا في التأويليّة كما الغرب، فإنَّ ذلك مدعاة لنسيانِ الأمميّة المقدّسة، وتحويلها إلى مُدنّسةٍ بالمعاني. إذن لدينا تغيير طفيف صنعته القراءةُ الجماعيةُ للنصِّ المقدّس، وليس الاستهانة باللفظ لذاته، وهذا ما تريده هذه المقالة للنصِ الإبداعي، بوصفه صنعةً إيقاعيّة لفظية لذاتها وبذاتها، ولكلِ لغةٍ قدسيّتها بعيدًا عن إيمانياتٍ خارجها. أي أن يَصنع الكاتبُ المبدعُ ألفاظَه بوصفها لَبِنَاتٍ مقدَّسةٍ لنصٍ سيقول شيئًا متعددًا من خلال الألفاظِ المختارة.

وهذا التقديسُ يُولِّد استجابةً تقديسيّة، تقوم على وعي القصديّة للألفاظِ وتركيبها؛ ألا تَرى لأولئك العرب الذين سَمعوا الشاعرَ ذا الرمة يَنطِقُ لفظةَ (يابس) فقالوا ذكرتَها لنا سابقًا (بائس)؟ فما كان منه إلا أن قالَ «هما بمعنى واحد»!. لو كانا بمعنى واحد تترادف فيه الألفاظُ؛ فلِمَ تَوقَّفَ هؤلاء السامعون ليُعدّلوا له قولَه؟ لهذا لمَّا لم يَكُن ذو الرمة بموضعٍ يجعل اللفظ ناطقا مستقلا، فإنَّ الذاتية تُوهِم الرواة، ومن ثمّ لن تُقدّسَ الكتابة بمفهومها المستقل، وستظل المعاني المتداولة مسيطِرة على الإبداع، الذي ظُنَّ أنه (مشاع)، وذلك لمَّا جُهِلت قيمةُ اللغةِ بوصفها إبداعًا لفظيًا لذاته، واكتفوا بالمعاني المأخوذة من الواقعِ اليوميّ الساذج. وهذا يُذكِّرنا بحكايةٍ لأحدِ العربِ حين عَبَّر بلفظٍ ما، فما فهمه السامعُ، فأعاده عليه بلفظٍ آخر ففهمه، قال له: «أنتَ كأبٍ إذا رأى ابنَه في قميصٍ أحمرَ عَرفه، وإذا رآه في قميصٍ كُحليّ لم يعرفه».

هذه الحكاية كاشفة حين يَخلط المبدع بين نفسِه - في واقعه الساذج - ونصِّه. وصاحب الحكاية هو شيخُ ابنِ جني؛ لهذا أرى إشكالًا يصنعه ابنُ جني حين يَتعاطى مع النصِّ بوصفِه معنى فحسب.

أخيرًا أشير إلى أنَّ ما تقوله المقالةُ مختلف عن مقولة الجاحظ: «المعاني مطروحةٌ في الطريق، وإنما الشأنُ في تخيّر اللفظ...» فأولا هذه ثنائيةٌ لا تُريدها المقالةُ، ثم إنَّ الجاحظَ -مثل ابن جني- معتزليٌّ، والمعتزلة لا يهتمون للّفظِ في ذاته؛ لهذا فهو يعني -مما يعنيه- المعنى الشِعري المقابل للمعنى العقلي عند أهلِ الكلام، فيكون اللفظُ المراد -عنده- هو الموازِن للمعنى الشِعري الجَيّد؛ ألا تراه يقول: «من أراد معنى كريمًا فليتخيّر له لفظًا كريما...»؟. وهذه المقالةُ لا تتحدَّث عن جيّدٍ وسيئ، ولا عن صورةٍ وأصل، أو أي ثنائية أخرى، بل هي تنطلق من قصدية (اللفظ) إلى ما بعده من خلال (الكتابة الجماعية).

التفاتة:

ما زالَ أهلُ الشامِ يقولون في لهجتِهم: «لبّكَني فلانٌ». ومِن التلبّك ذاتِه سألَ رجلٌ الحسنَ بن علي مسألةً ثم أعادَ السؤالَ عليه، فقال له الحسن: «لبَّكت عليَّ». أي خلطت. والسؤال: هل الحسن قَدّسَ اللفظَ حين لُبّكَ عليه بإعادةِ السؤال بألفاظٍ أخرى؟ ابن جني يقول: «معاذ الله»! والمقالة تقول: (لا تلبّكنا بجنّيتك يا ابنَ جني).