لن تجد مبحثاً يثير العقل مثل مبحث (العقل) نفسه، فهل تكتفي بمشروع الجابري الذي استبطن ابن خلدون في أطروحته ما بين مشارقة ومغاربة، لينقض طرابيشي هذه (القسمة الضيزى) حجراً حجراً، فتعود إلى حاضرك لتجد أن الوصف الأقرب في العقل العربي (الحالي) أنه عقل (مراهق) والمراهقة هنا نعني بها (أعراض استقطاب نفسي وذهني شديد بين زمنين ومرحلتين ينتج عنها تصرفات مضطربة متناقضة) فتراها تشتم (المركزية الغربية) باستعارات من (النقد الغربي لنفسه)، فحتى كتاب (الاستشراق) لإدوارد سعيد ليس إلا تصويبا علميا لمنهج (بعض) المستشرقين يستفيد منه كل صاحب دراسات إنثربولوجية في كندا أو الصين أو البرازيل، لينقلب على يد (العقل العربي) إلى مجرد اجتزاءات مبتسرة لإطروحة ردح مضادة يتبرأ منها إدوارد سعيد نفسه لأنها على يد (العقل العربي) لم تعد علمية بل أيديولوجيا تعبوية، ثم ينتج هذا العقل العربي (ظاهرته الصوتية) عبر مركزية عربية (دينية) تزعم أنها مبتدأ التاريخ الحضاري للبشرية جمعاء، والمصيبة أن هذه المركزية العربية الدينية مستعارة أيضاً من أبحاث (المستشرقين) في التراث العربي والإسلامي؟!!

العقل العربي الحالي هو خارج العصر الصناعي عدا أن يتفهم متطلبات هذا العصر ثقافياً، كيف لوعيه أن يحتمل ضغوط العصر الرقمي الحالي، فما زال حتى هذه اللحظة ينتمي في مواعيده ومواقيته إلى الزمن الزراعي بالمعنى البدائي، يقول أحدهم (قابلني قبل الظهر، أو نلتقي بعد العصر.... الخ) وعندما تخبره أن هذا التوقيت غير منضبط وينتمي (للعقل الزراعي) المرتبط بالظواهر الشمسية من شروق وغروب وهو أقل دقة بكثير من التوقيت المرتبط بما أنتجه (العقل الصناعي) فالثورة الصناعية بدأت تحرص على ساعات العمل بتحديد أكثر مما انعكس على السلوك اليومي المعتاد (نلتقي الساعة العاشرة صباحاً، أو نلتقي الساعة الرابعة مساءً)، عندما تخبره بكل هذا يقول لك هامزاً لامزاً متترساً بتابو الدين: وهل مواقيت الصلاة مرتبطة بالعهد الصناعي أم بالعهد الزراعي، وهنا تحضر الدهشة من سؤاله الذي يؤكد أن العقل العربي (عقل مراهق) فهو مشدود إلى قاموسه (الزراعي) في تحديد مواعيده التي تقبل التأخير والزيادة إلى قرابة الساعة وربما أكثر، ومشدود من جهة أخرى بالقفزة الأكبر لما بعد الحداثة في تجاوزه لجدول التقويم الذي يحدد أرقام ساعاته ودقائقه (علماء الفلك)، وارتباطه بتطبيق يقوم بتحميله على الجوال (تطبيق صلاة!!)، يقوم بتذكيره بمواقيتها (الآذان الآلي)، وطبعاً يتم تحميل هذا التطبيق كسلوك (استهلاكي) فقط، ونقول (استهلاكي) لأن زيادة تحميل التطبيق لن يؤثر في زيادة عدد المصلين في المساجد، ولن يزيد في حساسية (الفرد) بقيمة (الوقت) مثلها مثل (الساعة الرياضية الذكية) التي لا يعني زيادة مبيعاتها زيادة الرياضيين في المجتمع.

هل هذا المثال الصغير تريد تعميمه على العقل العربي لتربطه بالعقل الزراعي البدائي وتصفه بالمراهقة؟! أليس في هذا مبالغة وإسفاف تاركاً إرثاً من الخلاف البرزخي ما بين (العقل البرهاني) و(العقل العرفاني) وفق توصيف الجابري، فتمد رجليك لتخبر (المذاكرين كويس) أن توصيفات الجابري ليست سوى تأريخ للعقل العربي قبل (مراهقته) ـــــ لو سلمنا بها ولم نقف مع طرابيشي ـــــــ واجترار منتجات هذين العقلين إلى زمننا هذا ما بين سلفية مستحدثة على لسان (الغزاليون والتيميون الجدد) وهم جماعة تتعامل مع اجتهادات الغزالي وابن تيمية (الكلامية) باعتبارها (نصا) يمكن تحميله تأويلات فلسفية تضاهي ما طرحه رموز التنوير الأوروبي الحديث كنوع من استعادة (لعبة الإعجاز العلمي) القديمة لكنهم استبدلوا النص المقدس بأقوال الغزالي وابن تيمية، وسايرهم في ذلك (طالبي الرزق بالعلم من أساتذة الفلسفة من بعض المغاربة)، وهذا عمل أيديولوجي وليس علميا بتاتاً لأنه يقفز على التاريخ العلمي للفلسفة بشكل فج يجعلك ترى في (بريد الحمام الزاجل) أيام العباسيين نفس إمكانيات ودلالات (البريد الإلكتروني) لمجرد أنهما (يوصلان الرسائل؟!!)، ويقابلها صوفية مستحدثة/هايدغرية على لسان طه عبدالرحمن وأمثاله، وكل هذا يؤكد مراهقة هذا العقل الذي بقي مرتبطاً بمخرجات (الأورغانون) القديم لأرسطو، مهما حاول كثير من المفكرين العرب استثمار (ابن رشد) كنوع من البحث عن الأصالة الفكرية ذات الهدف (البيداغوجي/التعليمي) أكثر من حقيقتها العلمية قياساً على حقيقة (تكوين العقل الحديث) ــ وهو بالمناسبة عنوان كتاب من جزأين لجون هرمان راندال (تحذير للعقل العربي المراهق: إنه قرابة ألف صفحة) ـ عاجزاً هذا العقل العربي عن دخول (العقل الحديث) المنتمي ـ على الأقل ـ إلى عصر فرانسيس بيكون في (الأورغانون الجديد) والتحرر من إسار الأوهام الأربعة، التي يتوهمها (المرقعون/التلفيقيون) أنها موجودة في علم أصول الفقه منذ الف سنة، بينما علم أصول الفقه ليس له أي ارتباط بالطبيعة بالمعنى (الأمبيريقي/الفيزيقي) عاجزاً عن استدماج ابن الهيثم وجابر ابن حيان ضمن أرومته.

وفي المقابل عندما رأى العقل الأوروبي في القرن الثالث عشر الميلادي أن عند ابن رشد ما يضيفه لحضارتهم، ظهر عندهم تيار (الرشدية اللاتينية) ولم يحتاجوا إلى تلفيقات وترقيعات ينسبوها لرجل من دينهم ليلغوا تأثير ابن رشد في تنويرهم بل اتجهوا لاستثمار هذه (العجلة الجديدة) في (عربتهم الحضارية) وأصبح اسمها (الرشدية) وقد وضع بعض رجال دينهم العصا في هذه العجلة الرشدية رغم أهميتها الحضارية ـ راجع كتاب ارنست رينان ــ بينما (العقل العربي) وخصوصاً (السلفي) مهووس بتكرار (إعادة اختراع العجلة) مثله مثل هوس قدامى العاملين في (مجمع اللغة العربية/مجمع الخالدين وفق عبارة القصيبي في رواية العصفورية) عندما تعقد اجتماعات (علميه محكمة!!) كي تسمي الساندويش (شطيرة) والتلفزيون (رائي) لنرى (الديموقراطية) وقد أصبحت (شورى) بكل هذه البساطة الفجة!؟!!.

وأخيراً إن كان العقل (غير مفكر ولا قلق ولا يعاني مراهقة من أي نوع ولا يشعر بأي استقطاب بين زمنين) فهو (عقل مستكين) يختزل هذا المقال بعبارة (جلد الذات) كي يهرب من صداع القلق وضرورة التفكير، ليعيش مجمل الحمولة الثقافية التاريخية دون وعي بالزمن أو شعور بضرورات القطيعة لأن عدم الوعي بالزمن والعجز عن القطيعة هو ما يجعل راكبي الرنج روفر وجيب اللكزسس وعموم أبناء الدفع الرباعي من أحفاد البدو يتوهمون أنهم ما زالوا بدواً حتى هذه اللحظة رغم أن الراعي الفعلي للإبل (أجنبي/بدوي مستورد!!) حتى جملهم لم يعد جملاً بدوياً، بل هو (جمل حضري!!!) فتراه لا يأكل سوى تنويعات من العلف والحبوب ومنها (الشعير المستورد). ثم تتفاجأ أكثر أن هذا الجمل لا يتم توفير الشعير المستورد له فقط، بل يتم تقديمه (مبروشاً) لمزيد من رفاه التغذية وتسهيل المضغ والهضم!! فهل هذا الجمل له علاقة بجده الأول الملقب (سفينة الصحراء) من رمال شينجيانغ الصينية حتى أطراف موريتانيا، ولهذا ما زلت أرى أن البداوة (حالة) كما وصفها ابن خلدون وليست صفة مرتبطة بعرق خاص لقبيلة أو عشيرة، فوالدي كان يسخر ممن يتحدث بصفته كبير سن عن (هافٍ حمر/سيارة هاف حمراء) تقطع الفيافي، ليقاطعه والدي، رحمه الله، ليحدثه عن طفولته يتيماً يرافق قافلة الإبل محملة ما بين حبوب وحطب للأسواق الشعبية فمن سوق الدرب بمنطقة جيزان إلى سوق الثلاثاء بأبها، مستذكراً عمه شقيق والده وهو يعاتبه بمحبة على غفلته في سرقة اللصوص لبعض الحب عن طريق (الجراعة/قصبه صغيرة يستخدمها اللص والقافلة نائمة ليلاً، يطعن بها كيس الحب دون الحاجة لفتحه لتجرع الحب بكمية قليلة جداً داخل كيس صغير ويؤخذ بقدر كف اليدين من كل كيس حيث لا يلاحظ صاحب الحب أي نقص في الأكياس، بينما كبار السن الخبيرين ينتبهون لمثل هذه اللصوصية) يقول: تعلمت من عمي شقيق والدي كل ما يعرفه من تفاصيل التاريخ وتقلبات الزمن، ثم أكملت طريقي في الحياة فكنت أشد وأقوى ممن علمتهم أمهاتهم!!

مات فكبرت لأقرأ عند مالك بن نبي هذه العبارة عن مستقبل البطريركية: (الحضارة التي عليها طابع الذَكَر فتنتهي إلى الجفاف والعقم والتحجر..... وقد كان فيه ما فيه من قسوة) فعذرت والدي على بعض نواحي القسوة في شخصيته وشكرته في نفسي على تلك الصرامة الشديدة ضد كل ما هو (كاذب ومزيف وهامشي) في حياتنا، منذ انبهارنا ونحن صغار بأثاث وديكورات منزل أحد أصدقائه، فقال لنا: نبارك للناس حياتهم وفق وعيهم وإمكاناتهم، ولكن أريد من أولادي أن ينظروا أبعد من (أثاث وديكورات واكسسوارات أي منزل) انظروا لموقع المنزل من الشوارع الرئيسية في الحي ثم موقع الحي من المدينة ثم موقع المدينة من خريطة الجغرافيا والتاريخ، لتعرفوا قيمة الأشياء كما يجب، ثم ازدفر وقال: لو تعرفوا معنى هذه كما يجب، ستعرفون حتى موازين الدول والشعوب كما يجب.