كان لديَّ أصحابٌ في وقتٍ مَضَى، تتردّد على ألسنتِهم بعدَ كلمةِ (أنا): «أعوذ باللهِ من كلمة أنا»، ما عدا أحدهم يقول (أنا) بأساليب مختلفة كلها إلى الاعتزاز المتغيّر أقرب.

نسيتُ أمره، حتى سمعتُه يُردِّد جملة (لا تدقّ صدرك وضلوعك رديّة)، فقفز إلى ذهني المشاغب توقعُ أنَّ ثمةَ علاقة بين الموضوعين -أعني بين كونِه لا يتعوذ من كلمة أنا، وترديده للجملة- فسألتُه لماذا لا تتعوّذ من الأنا؟ فقال: «لماذا أتعوذ منها»؟! فتوجَّهتُ بالسؤالِ إلى أحدِ الأصحاب الذين كانوا يُكثِرون التعوذَ منها، فقال: «لأنَّ الأنا إذا طَغَت صارت شيطانًا». فالتفتُّ إلى محبّ (الأنا)! -كما سميتُه آنذاك- وقلتُ له: ما رأيك؟ قال: «لم أفهم، كيف تَطغى الأنا؟! لكن سأروي لك حكاية رواها لي والدي يُمكِن أن تجعلها إجابتي».

يقول: كان جدُّ والدي شيخًا على العشيرةِ، يُؤمِنُ بالمبادئ الراسخة المتينة، ويقال إنه لم يتغيّر أبدًا منذ ربّاه والده على ذلك. وشاعَ صيتُه، لحدّ أن صار محط أنظارِ العشائر الأخرى، بل لدرجة أن ادَّعى أحدُ النوّابِ -في عشيرةٍ حقيرة- أنَّه توأمُ الجدّ. ولما وصَلَ الخبر للجد أنكر أن يكونَ له توأم، وأرسلَ وفدًا للتأكّد من الموضوع. ولمَّا دخلَ الوفد على العشيرةِ الحقيرةِ رأوا الجدَّ أمامهم، فتعالت أصواتُهم بـــ(لا إله إلا الله)، ثم بعدَ أن هَدأ روعهم، سألوه: (من أنت)؟ قال: أنا توأم شيخكم. فقال أحد الوافدين برعشةٍ واندهاش: «أنت الشيخ نفسه!». عاد الوفد للجدّ وأخبروه بما رأوا، فتغيَّر لونُه، واضطر إلى أن يَذهبَ بنفسِه للتأكّد؛ لأنه شَكّ في صِدق الوفد، أو أنهم اتفقوا معه على الكذب لحاجةٍ في أنفسهم، أو أنهم مخدوعون بسحر؛ فلا شيء مهم بعد أن يُسرَق جاهك ومبدؤك. ثم أضمر الجد في نفسِه أنَّ مَن سَرقَ (وجهَه) وادَّعى هذه الدعوى، فلابدَّ من تصفيته.

لمَّا ذهبَ الجَدُّ إلى هناك لم يَجِد الشَخصَ المُدَّعِي، وسألَ عنه عشيرتَه، فأخبروه بأنه ذهبَ لطلبِ (جاهة)؛ ليُزوِّج ابنَ صاحبِه من بنتِ الشيخِ فلان. غَضِب الجد، احتار، ارتبك، تردد، تلعثم، انحبس لسانه. ثم لمَّا هدأت سورةُ الغضبِ وانطلق لسانُه، أخذ الجدُّ ميثاقًا من كبيرِ العشيرةِ الحقيرة بأن يَجمعه بتوأمه كما يَدّعون، ثم عادَ إلى مرابِع رعيّته. لكنَّ الجدَّ -لما طال أمد تنفيذ الميثاق- مَرض من شِدةِ ألم (الهوجاس)، ومرارةِ الجاه المنتقلِ منه إلى مراتِع أخرى. وكانَ للجدِّ أبناء عَمٍ، قرروا إنهاءَ الأمر، فذهبوا إلى مراتع العشيرةِ الحقيرة، وذَكَّروا كبيرهم بالميثاق، لكنَّه تَملَّص منه بأنَّ التوأم كثير الترحال. ومرّت الأيام والجدُّ يزداد مرضًا حتى مات. فجاءَ توأمُه إلى العشيرةِ وأقنعَ بعضَ أفرادِها بأن يَجعلوه (الشيخ)؛ ليستمر الجاه ولتبقى القوةُ كما عرفوها.

التفتَ إليَّ -محب الأنا- وقال: هذا ما جعل والدي يَرِثُ من والده هذه المقولة: (لا تدقّ صدرك وضلوعك رديّة)، ثم ورّثَني إياها. فما هي (الأنا) إلا ما تستطيع أن تفعله، وتلتزم بما تقوله. ودون ذلك لا وجود لها، إلا كتطابق وجه الجد وتوأمه؛ فعلامَ تُريدني أن أتعوذ منها؟!.

التفاتة:

خرجتُ من عند محب الأنا و(أناي) تتساءل:

هل ماتَ الجدُّ الثابتُ كما هو، من ألم (الواقع) المفتقر للزمن وتغيراته؟ أم أماته (الفكرُ) الذي أخبره ببقاء (أناه) واحدة مهما تغيَّر الزمن؟ أم أنه أمر مختلف جدًا وبعيد...؟. أما (أناي) فلا تدري.