لم تظهر كلمة المجتمع إلا في الفلسفة الحديثة، خاصة في وضعية أوجست كونت، والمجتمع في أبسط تعريفاته هو تجمع بشري حول قيمة لغاية نفعية، وتتغير صورة المجتمع وأساليبه في التصرف والسلوك باختلاف الظروف البيئية التي يعيشها، ومن خلال الحياة الاجتماعية يهتدي الإنسان إلى ألوان من التنظيمات والخبرات تعينه على السيطرة على الظروف، وتوجيهها الوجهة التي تتفق مع منفعته، والتفوق على ممانعتها، ليتجاوز أسلوب حياته إلى أسلوب أكثر جدوى.

كلمة المجتمع كلمة جديدة على اللغة الإنسانية، حتى إننا لا نجدها في الفكر اليوناني كله، وكل ما قد نجده عند أفلاطون وأرسطو هو اهتمامها بدور الفرد في نطاق الدولة، فمن الواضح أن أفلاطون قد أعاد تفسير «اعرف نفسك»، بحيث جعلها لا تنصرف فحسب إلى الإنسان الفرد، بل تنصرف إلى الجماعة البشرية من خلال تنظيم الدولة، وذهب أرسطو بهذا الفهم خطوة أبعد، فجعل من الإنسان حيوانًا سياسيًا؛ بمعنى أنه يشارك من خلال مواطنته في الأمور السياسية لبلده.

ويكتسب كل شيء في الحياة الاجتماعية مكانته من خلال منفعته المباشرة للإنسان، فقصيدة منظومة في تحديد أوقات الحرث والبذار والجني هي أكثر نفعًا للمجتمع الريفي من ديوان المتنبي بأكمله، ذلك لأن المجتمع قد يعامل الفن أو الفلسفة، كما تعامل أدوات الحياة المختلفة، ويقيس نفعها قياسًا عمليًا مباشرًا.

ولا شك أن هذه النظرة النفعية قد أضافت إلى الذخيرة الإنسانية ألوانًا مختلفة من الخبرات، اكتسبها الإنسان من خلال علاقته مع الطبيعة والكائنات، وقد أنتج تراكم هذه الخبرات، ومقدرة الإنسان على ترتيبها والتمييز بينها، ألوانًا من الخبرات العامة، نضجت لتصبح بعد ذلك علومًا تطبيقية مثل الزراعة وهندسة المسافات والطب والكيمياء.

وهذه العلوم وغيرها هي التي أسهمت في الارتقاء بالحياة المادية للإنسان، ونقلته من مجتمع الغابة إلى مجتمع القرية، ومن مجتمع القرية إلى مجتمع المدينة، وهي جديرة بعد ذلك أن تنقله إلى القمر.

وتحاول هذه العلوم أحيانًا أن تتجاوز آفاقها حين تتخم بالخبرات، فتبحث عن منهج ترتب به خبراتها وتميز بينها فتلجأ إلى العقل، وهنا تتحول هذه العلوم من مجرد خبرات إلى قوانين لها مظهر تجريدي، فإذا اهتدت إلى قوانينها تجاوزت ذلك إلى البحث في علة وجودها، وفي علاقتها بالعلوم الأخرى وفي علاقتها بالإنسان، وهنا تبدأ هذه العلوم في التفلسف، فقد نقلت صعيد عملها من المجتمع إلى الإنسان.

لقد بدأ الاقتصاد كخبرة إنسانية في تنمية الثروة، ثم ما لبث أن أصبح مجموعة من القوانين تهدف إلى ابتكار قواعد لهذه التنمية، ثم تحول بعد ذلك إلى تفسير التطور الإنساني باحثًا لنفسه عن علة وجود، وهنا تحول إلى فلسفة.

ولكن جملة ما نسميه «فلسفة العلوم» حين ترقى إلى أوُجِّها، تحاول أن تفسر الإنسان من خلال الإنسانية، ولكنها لا تعرف كيف تفسر الإنسانية من خلال الإنسان، فالإنسان هو نقطة البدء، وكل فلسفة تركيبية ينبغي أن تبدأ بالمفرد، لكي تستطيع بعد ذلك أن تصل إلى الشامل العام، فالوجود البشري ليس مجموعة من الأشجار أو ذرات الرمل، ولكنه مجموعة من الكيانات المفردة التي تبلغ درجة اختلافها حدًا يدعو للدهشة، لا نستطيع أن نميز البشر بالعنصر أو اللون أو الطبقة لكي نضعهم في إدراج مرتبة، فيسهل علينا أمر رؤيتهم وتصنيفهم وتحديد مواقفنا تجاههم، وإن النظر إلى الإنسان من خلال لون بشرته أو عنصره أو طبقته -في الحياة كما في الفن- لدليل ميل واضح إلى الكسل العقلي والذوقي.

مما لا شك فيه أننا في الفن حين نتبنى النماذج الجاهزة، ونقدم البشر -من خلال مسرحية أو رواية- كأنماط لا شخصيات نحكم على أعمالنا الفنية بالإفلاس والسطحية، وذلك هو الشأن أيضا بالنسبة للحياة.

إن العلوم الاجتماعية صالحة بلا شك للرقي بالحياة المادية للإنسان، ولكن علمًا واحدًا منها لم يتعرض للإنسان كإنسان، ولكن ما دام البشر مختلفين إلى هذا الحد فما الذي يجمعهم حتى يدور حوله بحث وتساؤل. * 1969

* شاعر وكاتب مصري «1931 - 1981»