سنحاول النظر للحركات الدينية من خلال تصورين للدين، فهناك الدين الطبيعي الذي يوجد مع الانسان في صراعه القلق مع قوى الطبيعة (أمراض، زلازل....) وهناك الدين النظري/الأيديولوجي، الذي يتربى عليه الإنسان وفق منطلقات ثقافية تخص السلطة والمجتمع وتطورهما في سلم الحضارة والمدنية، لنجد أن الدين الطبيعي يكاد أن يكون فطرياً بين جميع البشر، وأقصد بالفطري أنه ضمن نوازع الإنسان للبقاء وعلى رأسها (الخوف) ولهذا نجد الإنسان القديم قد أعطى الرعد والبرق من التصورات الناتجة عن غريزة (الخوف) ما لم يعطها الإنسان الحديث الذي صنع رعده وبرقه داخل المختبر ليكتشف أنه مجرد تفريغ للشحنات الكهربائية فكبح من خطرها عبر (مانعة الصواعق) على المنازل ــــــ قاومت الكنيسة هذه الفكرة بالتحريم حتى انتشرت بين الناس وثبت نجاعتها فاعتمدتها ضمن مبانيها الدينية ـــــ ولهذا فالدين الطبيعي هو الدين الذي يحتاجه الإنسان أمام سؤاله الأعظم (سؤال الموت والمصير)، علماً بأن هناك قبائل بدائية لا يوجد عندها هذا السؤال ولا تنظر له بهذا المستوى من القلق، والسبب ــــــ من وجهة نظري ـــــ أن سؤالها الحضاري متخلف جداً إلى حد اقترابها من حياة النياندرتال وإن اختلفت عنه جينياً.

أعود للحركات الدينية فأوضح أن لا علاقة لها ولا ارتباط بالدين الطبيعي بل هي صناعة سلطوية ناتجه من الدين النظري/الأيديولوجي الذي يبني قاعدته على أرضية الدين الطبيعي، وهنا أصدم القارئ بعبارة أقصد بها الجانب الخاص بعلم الاجتماع الديني وليس الجانب العقائدي الخاص بالكهنوت في التكفير واستباحة دم البشر لأسباب أيديولوجية.... فأقول: إن دين حسن البنا يختلف عن دين علي عبدالرازق فدين حسن البنا الأيديولوجي تجاه الخلافة (خارج التاريخ) ودين علي عبدالرازق (داخل التاريخ) ولكي أعالج صدمة اختلاف (الدين) فسأضرب مثال على عجل: لو قلت لشخص مسلم من بادية الصحراء الكبرى في الشمال الأفريقي: ما الذي (تدين به أمام الله) في مسألة التوحيد: فجاوبني بشكل فطري بقراءة (سورة الإخلاص) بينما شخص في حاضرة الشام قد يعتمد المخرجات النظرية المرتبطة بعلم الكلام زمن العباسيين ومن جاء بعدهم ليبدأ في تفصيل (أنواع التوحيد إلى ثلاثة مع خلاف بين الأشاعرة وابن تيمية في توصيف هذه الثلاثة ومآلاتها) كما حصل الخلاف بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم في تفاصيل (أركان الإسلام) ما بين ولاية وعدل ووعد ووعيد بخلاف ما نعرفه عن حديث ابن عمر برواية البخاري (بني الإسلام على خمس....)، كل هذا لأوضح المقصود باختلاف (الدين) النظري/الأيديولوجي، دون الدخول في الجانب الخاص بالكهنوت الذي تحررت منه الحضارة الإنسانية ولم تعد تخضع له كما كانت في أوروبا زمن (محاكم التفتيش وحرق البشر.... ) لهيمنة رجال الكهنوت على الحياة العامة، وهنا (مربط الفرس) في وجود الحركات الدينية، فكل الناس ـــ تقريباً ــــ تعيش تحت معطيات (الدين الطبيعي) في طقوسها وشعائرها (الخاصة) ولهذا نجد في بعض مدن الإمارات العربية المتحدة نموذجاً رفيعاً للكوزموبوليتية وما فيها من تعدد الديانات بشكل يثير الإعجاب والتحدي في مسألة (قبول التعددية) دون الوقوع في عيوب الديمقراطية الغربية ــــ التي نتفهمها ــــــ وما يصاحبها من (غوغائية/مظاهرات أناركية تحت مسميات مختلفة/بيئة، مناخ، تغذية، إنجاب، تربية، طاقة، دين، طائفة، جنس.... الخ) ولهذا فالعقلاء يدركون أن لكل شعب مزدهر ساسة يقودونه بهرولة الرامل وفق تراكمه الحضاري الخاص به سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، متجنبين عجلة المنبت (لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع) ونموذجها العسكريتاريا العربية التي جعلت العوام/ الدهماء يخلطون ما بين انقلاباتها وبين (القومية العربية) التي عاشها ناصيف اليازجي (ولد 1800) وارتحل في سبيلها أمين الريحاني بين ملوك العرب (ولد 1876) وأنضجها فكرياً ساطع الحصري (ولد 1880) باعتباره منظراً رشيداً (للقومية العربية) ووزير تربية مخلص ومستشاراً لجامعة الدول العربية، وما بين (العسكريتاريا الانقلابية) باسم قومية أو دين، منذ دكتاتورية عبدالناصر مروراً بالقذافي وصدام، وصولاً للعسكريتاري المتأخر المنقلب باسم الإسلام المشير عمر البشير.

الدين الطبيعي ينمو (داخل التاريخ) ويتكيف مع الجغرافيا، وما يحصل عليه من تشوهات من خلال الدين النظري/الأيديولوجي على شكل أطروحات (خارج التاريخ) قد تنجح في فرض واقع (مؤقت) لكنه غير دائم ولا يمكن بناء تراكم حضاري عليه وانعكاساته على الدين الطبيعي ضارة جداً ورهانه قمعي استبدادي ونموذجه الأبرز حالياً (الخمينية/الأيديولوجية) والتي قد يعيدها إلى طبيعتها التاريخية صعوبة معطياتها (اللاتاريخية) فيما لو غامرت في السير بدينها النظري إلى أقصاه الأيديولوجي، ولكنها تدري بخطر ذلك، لأنها ستكون أقرب لفتاوى داعش (فتوى قتل سلمان رشدي)، ومهما توهم المراقب صدق (حماسها الثوري الأيديولوجي) فهي أقرب لرعاية المصلحة القومية الفارسية من الاستجابة للدين النظري/الأيديولوجي في (ولاية الفقيه).