قبل أيام ألقيت محاضرة علمية في مركز تعارفوا للإرشاد الأسري في مدينة الرياض عن [الأسرة في بعض المجتمعات الآسيوية الهند، الصين، اليابان]. وذلك بدعوة كريمة من رئيس المركز الدكتور سعود المصيبيح.

وفي هذا الإطار أود الاعتراف بأنني واحد من المعجبين بالمركز وبمبادراته هالفريدة وأدائه المدهش، وما حققه من نتائج باهرة.

ومركز تعارفوا ذا طابع اجتماعي وإنساني بدأت فكرته قبل سنوات أثناء ذهاب الدكتور المصيبيح إلى جدة ضمن دورة المبتعثين.

ولكونه رجلًا اجتماعيًا واجه صعوبة كبيرة في بناء علاقات اجتماعية مع الناس سواء في الفندق أو في الأسواق والمولات أو في الكورنيش ومقاهي المدينة، عرضه هذا الوضع إلى إنكاش مرهق وعزلة شاقة في هذه المدينة الكبيرة، رغم أن لديه طاقة اجتماعية فائقة ومهارة في التداخل مع الناس بصورة عفوية وبراعة في العلاقات الاجتماعية، فإنه لم يتمكن من التداخل مع الآخرين بصورة تلقائية، وقد انتابه انزعاج ودهشة، فهو يرى أن العلاقات الاجتماعية كل الهواء الذي نتنفسه لاغنى عنها والتعبير الطبيعي للحياة، وليس مضطرًا أن يتقبل هذا الوضع الذي وجد نفسه فيه وعليه أن ينتهج أسلوبًا جديدًا، ويتخذ خطوة أولى، على أن يتولى الطرف الآخر اتخاذ الخطوة الأخرى.

فما نتوجس منه في العلاقات الاجتماعية ليس شيئًا حقيقيًا وعلينا أن ندفع هذا التوجس الخادع، ونكون علاقات اجتماعية نوعية ومستدامة.

لم يتوقف طويلًا عند معضلته بل وجد لها حلًا، خاصة أن الفكرة بقيت مستحوذة على تفكيره طوال وجوده في مدينة جدة، وفي هذا يقول:

[في صباح يوم جميل من أيام عروس البحر الأحمر جدة الحبيبة إلي قلبي وأمواج البحر تنساب علوا وهبوطًا بخفة ورشاقة وهدوء محبب للنفس تعطره نسمات الصباح الذي بدأت شمسه بالشروق معلنة قدوم يوم جديد.. تحركت من سريري مركزًا نظري في البحر من خلال نافذة الفندق الجميل الذي أسكن فيه والذي يمثل تطور هذه المدينة الساحرة ونموها العمراني الآخاذ، وعادت بي الذاكرة إلى عام 1404هـ حينما جئت إليها لأول مرة وسكنت في شقة مفروشة مع أربعة من الزملاء لحضور دورة المبتعثين التي كانت تنظمها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لمدة شهر، وكان من المعتاد أن تكون في الرياض لكنها في تلك المرة تقرر أن تكون في جدة لأن غالبية المبتعثين من مدينة جدة.

ومع تداعيات الذاكرة بين الماضي والحاضر تذكرت أنني في جدة في زيارة لحضور مؤتمر يبدأ غداة اليوم التالي وأن معارفي في جدة أقل من السابق، وبالتالي لا أعلم ماذا أعمل بقية ذلك اليوم وليس لي معارف يرحبون بزيارتي لأن كل واحد مشغول في عالمه والتزاماته ولم يعد الإنسان يجد تلك الحميمية والبساطة التي كنا نجدها في السابق.. فسألت نفسي إلى أين أذهب وكيف سأقضي وقتي في ذلك اليوم سواء داخل أو خارج الفندق رغم ضخامته وكثرة ساكنيه الذين لا أعرف منهم أحدًا ولا أعلم طريقة أستطيع بها التعرف عليهم أو الحديث معهم لأبعد عن نفسي وحشة الوحدة التي أعيشها في هذا الفندق.

بادرت إلى فتح التليفزيون لأقلب القنوات وكانت الساعة تقترب من السادسة صباحًا.

وتوقفت عند قناة تليفزيونية تبث آيات من القرآن الكريم بصوت أحد القراء المؤثرين الذين انتقلوا إلى رحمه الله. ولفت انتباهي قوله تعالى {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناَكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقبائل لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتقكم } (الحجرات: 13).

أمسكت بالمصحف وفتحت على السورة وبدأت أقرأ الآية الكريمة مرة تلو أخرى لقد وجه الله سبحانه وتعالى خطابه للناس جميعًا بمختلف أعراقهم وأطيافهم، كما وجه الحديث للذكر والأنثى قائلًا: جل من قائل بما معناه إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لكي تتعارفوا كررت قراءة الآية عدة مرات وخلصت إلى نتيجة أن الخطاب عام إلى بني آدم أجمعين بشكل شامل ليتحقق التعارف الذي به تأنس النفس الإنسانية ويحصل التآلف والتقارب.

سألت نفسي لماذا لا أطبق هذه الآية الكريمة؟! وأنا الآن في هذه المدينة البحرية الجميلة وفي هذا الفندق الذي لا أعرف فيه أحدًا وهذا نداء من الله سبحانه وتعالى الذي خلق عباده ويعرف حاجات بعضهم إلى بعض، وأنه خلقنا لكي نتعارف فقلت وهنا تكون البداية لتطبيق هذه الآية في واقع حياتي.

في ذلك الصباح أعددت نفسي ولبست ملابسي ونزلت إلى مطعم الفندق لأتناول الإفطار وأبدأ بالتعارف حسب ما أمر الله به عز وجل.

أخذت من بوفيه الإفطار بعض الطعام ووضعته على الطاولة واتجهت إلى شخص أجنبي وقدمت له نفسي واستأذنته للحديث معه للحظات فرحب بي وكنا نقف بالقرب من بوفيه الإفطار، وقرأت عليه الآية الكريمة وترجمتها الإنجليزية لأنه عرفني بنفسه على أنه كندي الجنسية ويعمل في المملكة كابتن طيار لإحدى شركات الطيران الخاصة. وأمعنت في شرح الآية وأن الهدف هو التعارف كما ورد في الآية القرآنية وأنني في جدة لا أعرف أحدًا وسألته عما إذا كان لديه وقت لنتبادل الحديث سويا في الصباح أو المساء.

ذهل الرجل من طريقتي في الحديث معه وقال إنه يتردد منذ عشر سنوات على المملكة ولم يحدث له مثل هذا الموقف، وأنه يمضي وقته وحيدًا لأنه لا يوجد أماكن اجتماعية للتعارف ومقابلة الناس هنا، وقال إنكم لا ترغبون في الاختلاط بالأجانب، ولذا أجد صعوبة في التعرف على أحد ولكن طريقتك وقراءتك للآية وشرحك لمعناها بسط المفهوم لي وأنا أرحب بك وبالتواصل معك هذا اليوم وكل يوم وأنا مسرور بذلك.

كررت المحاولة مع أكثر من شخص حتى وصل العدد إلى عشرة منهم أربعة من السعوديين وستة من غيرهم. هنا وجدت الحياة أفضل وأجمل حينما يتعارف الناس وأدركت المعاني العظيمة لهذه الآية الكريمة.

وذهبت أنا والطيار الكندي إلى جدة القديمة وزرنا بعض المواقع الجميلة ولم أشعر بأي فراغ أو وحدة ذلك اليوم، وأصبحت كلما سكنت في فندق أو سافرت إلى بلد أشرح هذه الآية الكريمة وأقدم نفسي للناس وأجد القبول وسرعة الاستجابة لأمر الله سبحانه وتعالى لعباده بالتعارف.

ومن هنا بدأت فكرة مركز تعارفوا فتطوير نمط العلاقات الشخصية يمنحنا السعادة والألفة والمتعة، فتعلم بناء العلاقات مهارة حاسمة سوف تنتزعنا من أوقاتنا الكئيبة، غير أن التوقيت المناسب والاختيار أمر حاسم في العلاقات الفعالة، ولكننا نجد صعوبة في المبادرة، لأن لدينا عواطف مختلطة حول الناس، وهذا يجعل ترددنا يعطل إرادتنا في العلاقات مثل هذا التفكير يبدد الدخول في علاقة جديدة.

فالعلاقات الشخصية غالبًا ما تغير مسار الحياة إلى الأبد، فهذا الذي يقف خلفك في الصف كما يقول أنتوني روبنز أو ذلك الذي يجلس إلى جانبك في الطائرة، أو الذي يجلس بجوارك في المقهى أو المسجد، أو في حفل ما، قد يكون هو الذي يفتح لك أبواب المستقبل.

لقد شكلت العلاقات حياة كثير من الناس، وقدمت لهم أعظم الهبات، لكن علينا أن نتعلم مهارة تقنيات العلاقات فهي القوة المتوفرة لدينا في كل لحظة، فلنبادر باستخدامها، فاقتسام الحياة مع الآخرين متعة بحد ذاتها.

وقد أجريت دراسة في معهد كارنجي أثبتت أن 85% من النجاح يرجع إلى المهارة في العلاقات الاجتماعية.

فإذا لم نكن قادرين على التواجد مع الناس بصورة سلسة وعفوية، فإننا نفتقد فن الاتصال، وعند ذلك نضيق ذرعا بالآخرين، ولكن لنكون أكثر دقة فإن النظام النفسي والشعوري هو الذي يحدث حساسية اتجاه الآخرين، وهو الذي يحطم الأطر الطبيعية للعلاقات الاجتماعية، ويؤدي إلى الانطوائية على الذات.

فالأشخاص الذين يتمتعون بمستوى ذكاء عال في العلاقات الشخصية لديهم القدرة على التفاعل مع الناس والتأثير عليهم، ولذلك فأوسع رجال الأعمال نفوذا و الخبراء والاستشاريون والمدراء الناجحين يتمتعون بذكاء العلاقات الشخصية بدرجات عليا.

ولذلك يكتسب الأشخاص الفعالون عادة الإرتباط بالآخرين، لما يتسمون به من إيجابية ومرونه بشكل دائم، ولعل جوهر الحياة المثالية يقوم على العلاقات ويتم بناء العلاقات على أساس من الثقة، فالثقة هي الرابطة التي تضم نسيج العلاقات بين الناس.

يقول بن شتاين [إن التجربة الشخصية التي ينمو فيها كل تقدم وكل نجاح وكل إنجاز في الحياة الحقيقية، هي تجربة العلاقات الشخصية].

ويقول تشارلي جونز [ستكون بعد خمسة أعوام ما أنت عليه حاليا، فيما عدا ما قرأت من كتب ومن تعرفت عليهم من أشخاص].

ويقول المفكر الدكتور بريان تراسي:

غالباً ما يُشار إلى كثيرين من أنجح الأشخاص بوصفهم [منفردين] ومع ذلك، فهذا لا يعنى أنهم [منعزلون]. فهم ليسوا أشخاصًا غير اجتماعيين أو يميلون للعزلة. إنهم [منفردون] لأن لديهم معايير شديدة الانتقائية بشأن من يقضون وقتهم معهم. فهم لا يذهبون لاحتساء القهوة مع من يصادفهم أيًا كان أو يخرجون لتناول الغداء مع من يتصادف خروجه من باب العمل في الوقت نفسه. وهم يحرصون على تكوين علاقات ذات نوعية فائقة، ويحافظون على استمرارها، كما أنهم يتجنبون في تعفف الأشخاص السلبيين الذين قد يعيقونهم عن التقدم إلى الأمام.

إذا كان الارتباط بالأشخاص الإيجابيين هو سر النجاح، فإنه ينبغي أن تبتعد عن الأشخاص السلبيين.

. فهم المصدر الأول لأغلب حالات البؤس. والمشكلات الخاصة بهؤلاء غالبًا ما تكون المصدر الرئيسي للمتاعب والضغوط والإحباط.

أما محاضرة [الأسرة في بعض المجتمعات الآسيوية الهند، الصين، اليابان] فسوف أتناولها إن شاء الله في مقال قادم.