يظن الكثيرون أن الشعر البدوي الحديث لا طعم له ولا روح فيه، وأنه لا يمتاز - كما يمتاز كل شعر عال - بالطابع الفني، والبلاغة الآسرة، وهذا الوهم الشائع يجب أن نزيله من الأذهان في هذه المناقلات؛ فإن شعر البادية فيه الركيك المرذول، وفيه المبين المشرق، وفيه ما بين هذين في ضروب الأساليب، وفيه من المعاني والصور والفكر ما لو يتصدى له أحدهم - على سعة وقت وفراغ بال - لأتانا من نماذجه العالية بالعجب العجاب.

إن البدوي رغما عن فظاظته وما يبدو من جلافته، من أعلم الناس بالجمال وأصباهم إليه؛ وأفطنهم إلى أدق مواقعه، وحياته بسيطة جداً، فهو سعيد كل السعادة عند أهله بين سوائمه من إبل وخيل وشياه... وبين كلاب صيده وصقره كلما بدا له أن يذهب للصيد والقنص، وشعره لا يعدو ذلك إلا إذا خطر له أن يتغزل أو يفتخر بنفسه أو عشيرته أو يهجو أعداءه. وينقسم الشعر عند البدو إلى أقسام: قسم يتغنون به في مجالسهم وقسم يرتجزونه على أكوار مطاياهم، وقسم يسمونه [الحداء] وهذا يرفعون به عقائرهم على سروات جيادهم، والقسم الأخير يتساجلون به - واقفين في الغالب - ويسمونه [المقاصد] أو [المراد]. ولسنا بمستقصين، ولن يسعنا الاستقصاء ولكنا سنأتي بأمثلة مما يتفق لهم من روائع المعاني وغرائب الوصف، أمثلة قليلة بالبيت والبيتين ومن هذا القليل يستدل على ما وراءه من كثير.

قال أحدهم من قصيدة:

ارخ ( الرسن ) خلها بالراس تلعب به

لعب الغنادير، قدام العشاشيق

أى أرخ زمام مطيتك ودعها تلعب برأسها مثل الصبايا الحسان عندما يلعبن أمام عشاقهن..

صور من أروع الصور، فإن نجائب الإبل أمثال - شعراً - «الأوارك» و «العمانيات» الحرائر إذا أحسنوا

ترويضهن وتدريبهن أسففن برموشهن حتى تكاد مشافرهن تمس الأرض؛ وطفقن يملن بها يمنة ويسرة وعلوا وسفلا؛ وأحسب أنها هي مشية [الهيدبى] التي أشار إليها المتنبي في مقصورته المشهورة.

وفي الشعر العربي الفصيح صورة لا تشبه هذه من حيث المعنى، ولكنها تماثلها في براعة التصوير فخذ هذا البيت القديم الذي أنسيت اسم قائله:

خوص نواج إذا غني الحداة بها

رأيت أرجلها قدام أيديها

وقال أحدهم من قصيدة أيضاً:

في حب خدن نثف القلب تنتيف

تنتيف شقران الحرار لعلفها

وهو أصدق الوصف لما يصيب قلب المتيم إذا ابتلاه حبيبه بالقطيعة والهجران.. فإن الصقور أنواع، وخيرها ما يسمونه [ الحر ] ولونه يضرب إلى الشقرة، فإذا قُدّم إليه اللحم على كف صاحبه [ الصقار ] أخذ ينهشه أقوى نهش حتى أنه ليجتث ألياف اللحم من أصولها وقد صنع بقلب محبه صنيع الصقر بعلفه وهو اللحم الذي يعتلف به.

وقال أحدهم:

قالوا تسير و قلت والله ما أسير

والله ما أسير لواحد ما دعاني

أنا خويه في ليالي المعاسير

والا الرخا كل يسد بمكاني

قالوا سر قلت والله لا أذهب إلى امرئ لم يدعني، لقد كنت صديقاً وفيا أيام الشدة فأما في أيام الرخاء ففي وسع أي إنسان أن يملأ مكاني عنده.

وقال أحدهم:

يا جملة الجذعان عندي لكم شور

شور على من عليات الاشوار

خذوا هواكم واقطفوا من جنى الحور

ومن جنب الجنة مطبة على النار

وهما على التقريب:

وعندي لكم أبناء قومي نصيحة

كارشد ما أدلى به الناصح الداري

خذوا من هواكم وأجتلوا كل ناهد

ومن جار عن عدن فمأواه في النار

وهذه تذكرني بأبيات لشاعر عربي قديم في مثل معناها

على ما أظن ولا أتذكر منها إلا العجز الأخير وهو:

إيما إلى جنة إيما إلى نار

وايما هنا بمعنى إما.

وشر ما في هذا الشعر انعدام الإغراب فيه، فأما المفردات وأغلب العبارات فإنها عربية صحيحة ويدخل بعضها تحريف طفيف.

وللأخ البحاثة محمد بن بلهيد قصيدة بالغة الجودة تعتبر من غرر الشعر البدوي الحديث ومطلعها

أشوف الأيام تقدح باهلها قدح المشاهيب

وقت تغير ولا أدري ويش ينطل في عتابه

وأنا أحفظها كلها لفرط إعجابي بها. فإن تفضل وأذن لنا بنشرها نشرناها وأوضحنا ما غمض من معانيها للقراء، فإنها جديرة بالنشر والحفظ للترديد.

1950*

* شاعر وصحافي سعودي «1914 - 1993».