• لنقل إن زيارة بلدة مغلقة وغامضة.. شيء مثير، حيث الحكايات الغريبة تنهال على بصرك وسمعك من كل صوب؛ التواطؤات الفظيعة بين أهلها في أفعالهم وأقوالهم، المشاحنات والتآلبات التي لا تنتهي إلا لتبدأ، الأنين والصراخ اللذان يعلوان معا، وبالتزامن من جهات عشوائية، الخوف والنظرات المحدقة بحذر وعنف، الوجوه الملثمة والمغطاة، المخلوقات النهمة التي تجوب الشوارع والأحياء مصحوبين برجال ذوي عضلات مفتولة، أصوات أبواق السيارات الضاجة والمتأففة عند إشارات المرور وحوادث السير، الأرصفة التي تفوح منها أوحش العبارات بذاءة ونقمة، الخرسانات والحواجز، صيوانات العزاء، الـ.. الـ..!
• لكن.. حدث أنه وبعد سنة واحدة من زيارتك لهذه البلدة، صار كل ما هو غريب وناتئ، بل وخطِر عندك، وبالأصح عند عموم بني البشر، وفي كل مكان، صار هو محيطك اليومي، ولا شكّ أنك مهما كنت لا توافق عليه، إلا أن وجودك في عمقه أفقدك الإحساس بضراوته! صرت جزءا منه فقد نسيت لشدة انهماكك في الوقت أنك ذلك الزائر الذي كان ينظر لصور البلدة الغامضة من خارجها، فيجدها ليست طبيعيةً ولا مألوفة!. بعد عام واحد فقط ها أنت في قلب الصورة، تتعاطى مع هذا اللاطبيعي في الشارع والمطعم والسوق.. الخ، بل وحتى في شاشة جوالك وحاسوبك، ها أنت تتعامل بمهارة تلقائية رهيبة مع ما يحدث على مدار الساعة، مهارة.. لا تحتاج أن تتوقف لثوان لاستدعائها، لقد واجهت الحالات نفسها آلاف المرات، حتى انطفأت فيك جذوة الحسّ والحذر السوية!.
• أوه! حسنا أنت كاتب! الجميل أنك تتذكر هذا ليليا بعد أن تعود منهكا من تجوالك! لنكن صرحاء! الحقيقة أنك لا تتذكر فور عودتك، أنت أولا تغير ملابسك، وتغسل وجهك، ثم تستلقي على مقعدك فترى الكتاب الذي لم تكمل قراءته البارحة فتميل برأسك للوراء وتسحب نَفَسَا قدر ما تطيقه رئتاك، وفي منتصف الزفرة المسائية العميقة المعتادة تتذكر؛ "أنا كاتب، يجب ألا تأخذني هذه البلدة، ألا تذيبني في دورانها الغاض هذا، نعم نعم أنا كاتب، مهنتي أن أنتقد وأوثق وأتخيل. الحقيقة مهمتي" ثم تكمل الزفرة.. تعيدها مرةً أخرى!.
• تسحب الكتاب المفتوح من البارحة.. وتقرأ "لقد كفّ الإنسان الذي تغذيه الأشياء، كما لو أنه لعبة خشبية، في الواقع الذي استدعاه بنفسه، عن أن يكون حرا، بل أصبح مجهولا لا شخصيا، شأن أدواته، وهو لا يعيش الآن في الزمن الحقيقي لأحوال الوجود، بل بين ساعاته الخاصة". آرنستو ساباتو.