في كل لغات العالم يفرض منطق اللغة وجود ما يعرف بالاستعمال الصحيح للغة. ووجود الاستعمال الصحيح يتطلب وجود صورة مناقضة للاستعمال الصحيح يمكن اعتباره استعمالا خاطئاً. ومراعاة الاستعمال الصحيح أمر بديهي وموجود في كل الثقافات. وفي نظرية «الازدواجية اللغوية» لفرجسون، فإن الأشكال اللغوية في أي مجتمع تتكون من نوعين: النوع الأول يكون عادة على شكل لهجة فصيحة تسمى بالشكل اللغوي الأعلى (High Variety) والنوع الثاني يأخذ شكل اللهجة العامية أو الدارجة ويسمى بالشكل اللغوي الأدنى (Low Variety).

وكلما زاد تعليم الفرد واطلاعه وتنوعت قراءاته وتعمق في فهم النظام الداخلي للغة، فإن إلمامه بالشكل اللغوي الأعلى يزداد وبالتالي تتقلص لديه الأغلاط اللغوية. وفي كل الثقافات يفضي تحريف الشكل الأعلى للغة إلى انتشار اللحن بين العامة وإلى نشوء ما يعرف بالشكل الأدنى للغة أو ما يعرف بالعاميات. وإتقان الشكل الفصيح قد يعتبر مهارة تتفاوت بشكل نسبي من شخص لآخر. وتمتلك اللغات واسعة الانتشار، كاللغة العربية والإنجليزية البريطانية، نصوصا رفيعة وتراثا ضخما يمكن الرجوع له لتحديد صيغة مشتركة للاستعمال الصحيح.

ومما يضفي شيئا من المشروعية والرسوخ لقواعد الاستعمال الصحيح ويمنحها الاستمرارية عبر الأجيال المتوالية هو ارتباطها بتراث ديني وأدبي يكون محل تقدير واحترام لدى أفراد المجتمع، علاوة على كونه اتصالا بماض زاهر مجيد. وعندما تنشأ ظاهرة التمرد اللغوي في المجتمع، أي ظهور أفراد يرفضون قواعد الشكل اللغوي الأعلى ويتساهلون في كسرها والإخلال بموازينها، بحجة أن اللغة تتطور أو أن اللغة شجاعة لا تقبل الجمود، فهذا مؤشر طبيعي على أن هناك فئة في المجتمع، بدأت تفقد ارتباطها بموروثاتها أو أنها تعتقد بأن هذا الموروث لا يعنيها أو لا يمثلها. هذه الأزمة اللغوية يمكن ملاحظتها بشكل واضح في اللغة الإنجليزية البريطانية التي وجدت نفسها وسط معركة وجودية مع الإنجليزية الأمريكية.

الصراع بين الإنجليزية البريطانية والإنجليزية الأمريكية لا يمكن اختزاله في قضية «التطور اللغوي» فهناك جوانب أخرى لهذا الصراع يحمل خصائص سياسية واقتصادية، فالنخب الأمريكية تتعاطى مع اللغة من زاوية إستراتيجية، باعتبار اللغة مكونا هاما من مكونات الثقافة. وباعتبار أن تمرد الأمريكيين على الإنجليزية البريطانية يمثل رغبة في الاستقلال الثقافي عن التاج البريطاني وامتدادا للثورة الأمريكية في القرن الثامن عشر ضد الأم (بريطانيا) الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.

رفض الاستعمال الصحيح للإنجليزية البريطانية وتمييع قواعدها يهدف لصنع مقاربة أمريكية للعلاقات البشرية ويمهد الطريق أمام أمركة الثقافة والآداب ومحو أي ثقافات منافسة. فالإنجليزية الأمريكية تتعامل مع اللغات الأخرى وعلى رأسها الإنجليزية البريطانية على غرار ما تفعله مع السياسة والاقتصاد الأمريكي. أي بطريقة الإلغاء التدريجي لتقديم الثقافة الأمريكية ثقافة كونية عابرة للقارات، والإنجليزية الأمريكية باعتبارها لغة عالمية جديدة. لذلك تواصل الثقافة الأمريكية عملها الدؤوب في انحلال وتفكك وتمييع قواعد الإنجليزية البريطانية وتهميشها من خلال محو مصطلحات الإنجليزية الأم ورفض مخزونها المعجمي وإفقار قواعدها النحوية والصرفية، إنها ببساطة تسعى لتشويه طبيعة الإنجليزية البريطانية من خلال تعميم الاستعمال الأمريكي حتى على المستويات الرسمية. ومع كثرة التداول المنظم والمقصود للثقافة الأمريكية حلت لهجة الشارع الأمريكي الفظة محل الإنجليزية البريطانية الراقية، اللهجة البريطانية الشهيرة التي طالما سمعناها في قنوات الإذاعة الإنجليزية العريقة أو كما يسمونها BBC ENGLISH.

أصبحت معاهد تعليم اللغة الإنجليزية على الطريقة الأمريكية تغزو مدن العالم ساحبة البساط من تحت المعاهد والأكاديميات البريطانية المرموقة. يعتقد الأمريكيون أنهم غير ملزمين بطريقة الاستعمال البريطاني وتراث الأدب الإنجليزي، وبالتالي أخذوا يتمردون على قواعدها ويرفضونها بل ويقدمون كل الحجج العلمية على أن اللغة تتطور ولا معنى لفرض أي قواعد للاستعمال الصحيح. الحجج الأمريكية نفسها نجدها تتكرر حرفيا في الأوساط الثقافية والأدبية في العالم العربي، في شكل أشبه بالتبعية الثقافية. وكما تستورد البضائع والمنتجات الأمريكية أصبحنا نستورد حتى الأزمات الثقافية واللسانية. ولا شك أن قضية الاستعمال الصحيح كانت على الدوام مثارا للجدل ولكن لكل لغة ثقافتها وموروثاتها وظروفها التاريخية الخاصة، فلا يوجد أي مبرر لتعميم حالة الإنجليزية الأمريكية على بقية لغات العالم.