وإن ليس في عنوان هذا المقال أية محاولة للتفاصح أو التبالغ (من البلاغة) ، بل يمكن إدراجه أسلوبيا تحت ما اصطلح القدماء - بدءا بالجاحظ - على تسميته باسم (رد العجز على الصدر). واذا كان كثير ممن تناولوا الموضوع يضعون (الثقافة) طرفا في مقابل طرف (التنمية)، فإن هذا الوضع يزيد المشكل تعقيدا، في حين يتصور أصحابه أنه يقترب به من حدود الفهم، ويقودهم الى الحل. والحقيقة أننا لسنا بإزاء طرفين في علاقة، حتى لو وصلنا بها إلى آفاق التفاعل الجدلي بالمعنى العلمي. إن ما نطلق عليه . تجاوزا - اسم (العلاقة بين الثقافة والتنمية) لا يتشابه مع العلاقة الجدلية بين البنى التحتية والبنى الفوقية في تشكيلة اجتماعية بعينها، وذلك لأن التنمية مشروعات وخطط قصدية واعية من جانب أصحابها لتحريك الواقع في اتجاه تحقيق أهداف بعينها. والواقع الذي أعنيه البناء الذي تستهدفه التنمية بناء عضويا، بناء متكاملا ينتظم في كل مركب من الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الراهن والتاريخي التراثي والثقافي بالمعنى الشامل، الذي ينتظم بدوره من الأعراف والتقاليد، وأنماط السلوك والفكر والدين والأدب والفن، المدون والشفاهي (الراهن والتاريخي التراثي أيضا). هذه التركيبية المعقدة في بنية الواقع - هدف التنمية - تستلزم أن تكون التنمية شاملة حتى تحقق أهدافها في تحريك الواقع نحو الأهداف المرجوة .

التنمية إذن ليست طرفا مقابل الثقافة، بل هي خطط ومشروعات ذات طابع فكري عقلاني، يستند إلى تحليل الواقع واكتشاف علاقاته التركيبية المعقدة، طموحا إلى تحريكه إلى الأفضل والأرقى والأنفع. إنها نشاط ذهني ينتمي إلى مجال الثقافة، فكيف تعد طرفا في مقابل ذاتها. وإذا نظرنا للمشكلة من جانبها الآخر، أي من جانب الثقافة، فإننا ننظر في الحقيقة إلى الوجه الآخر للعملة، وهذا معناه أن (ثقافة التنمية) و(تنمية الثقافة) ليسا مفهومين متقابلين يمكن أن يتحقق أحدهما في استقلال عن الآخر. ولسنا بحاجة للتأكد أن هذا الفهم العضوي الجانبي التنمية / الثقافة (أو الثقافة / التنمية) - ولا نقول الطرفين - إنما ينطبق على التنمية الحقة / الثقافة الحقة، التي تحقق وتعبر عن مصالح المنتجين الحقيقيين في المجتمع. وفي الحالات المرضية تكون هناك خطط ومشروعات للتنمية، لكنها لا تنجح في تحقيق تحريك المجتمع ورفع مستوى المواطن واشباع حاجاته المادية والروحية، ولنلاحظ أن إحدى الدلالات اللغوية للصيغة الرباعية للفعل - أنمى أو نمى - الرفع والإشباع، يقال: أنمى النار ونماها: أي رفعها وأشبع وقودها. قد يقال في مثل هذه الأحوال إن خطط التنمية لم تراع

ظروف الواقع، وقد يقال إن المشكلة تكمن في القائمين على تنفيذها، وقد يقال إنها فشلت لأن الجماهير - صاحبة المصلحة الحقيقية - لم تتحمس لها بالقدر الكافي، وأيا كان ما يقال من تعليل للفشل فإن العلة - علة المرض - تكمن في (العقل) المخطط أو في (العقل) المنفذ ، أي تكمن في الوجه الثقافي.

1992*

* باحث وأكاديمي مصري«1943 - 2010».