لم يكن التوقيتُ عاديًّا للرحيل، ولم تكن حرارة التوديع بحجم قسوة الفقد، ولا الـمُصاب يُضاهي فاجعة غيابك الأبديِّ، كان رحيلك صباح أول العيد هو آخر رسالة بتوقعيك، تخبرُنا أن صباحات العيد ليست للفرح فحسب، وأن الحزن قادر على اجتياح أكثر الأوقات فرحًا، وأن صباح العيد في كلِّ عام قادمٍ سيحمل ألم ذكرى رحيلك التي لن تغيب.

العم "جابر البصراوي" الذي ما عهدته يتأخَّر في الخير والعطاء، لم يتأخَّر هذه المرة في الرحيل- وليته تأخَّر- سبق الجميع لدار البقاء، تاركًا أحبَّته في معبر الدنيا الزائلة، وأفواههم مليئة بتهاني العيد، رحل بعد أن غرس بذرة العلم في ميدان براعم المستقبل، ورعاها ورواها، وشهدَ ثمرتها وحصادها في طلابه الذين شيَّوعه مع أحبَّته إلى مثواه الأخير.

الأستاذ "جابر" الذي كانت تُهرع إليه ابنة أخيه بعد كلِّ درس جديد تتعلَّمه في مدرستها؛ بغية مراجعة الدرس وحفظه بين يديه، وهي الطامعة بكلِّ يقين بأنها ستنهل من حقل علمه المزيد، وسيعطي ذلك دون مقابل، ليسهم في وضع اللبنة التأسيسية الأولى في مسيرتها العلمية.

ولأن العمَّ "جابر" يمتلك العلم بالإضافة إلى المبادئ الأولية في التربية، كان يجمع بين الضِّدين: القسوة والرحمة؛ فتراه قاسيًا في التعليم حتى نفطن، رحيمًا مُكافئ حدَّ اللين، تلك القسوة التي علَّمتنا قيمة العلم، وتلك الرحمة التي جعلتنا لا ننسى أصل إنسانيتنا، مهما بلغنا من مراتب الدنيا.

لقد حار الجواب ثم امتنع، وظلَّ السؤال معلَّقًا، عن أسباب الرحيل وتوقيته، وهل اختاره الموت أم هو الذي اختار أن يرحل في صباح مُبهج كبهجة العيد؟

وأيًّا كان الجواب، فقد رحل صاحب الوجه البشوش، والروح الممازحة التي لطالما هونت مسيرة الحياة في عيون أحبته وأبنائه ورفاقه، رحل صاحب القلب الصافي، وعجزت الكلمات من بعده عن وصف ألم فقدانه، لكنَّ أمنيات القلب لن تعجز عن رجاء رؤيته حُلمًا في الكرى، أو لقاءً يُرتجى في جنات النعيم.