يُواجِه الاقتصادُ العالَميّ حالةً من عدم اليقين، في ظلّ أخطارٍ مُتزايدة، مع استمرار التوتُّرات الجيوسياسيّة المُتصاعِدة والصراعات العسكريّة في مناطق عدّة حول العالَم، وترقُّب تحوّلاتٍ سياسيّة كبيرة في دولٍ مُختلفة. وذلك في وقتٍ تبرز فيه مجموعةٌ من الأخطار الاقتصاديّة والإجراءات المتعلّقة بالسياسة النقديّة، التي تقود إمّا إلى استمرار الاستقرار النسبيّ أو الوقوع في فخّ الركود. وقد بدأت طلائع التطوُّرات مع اليابان التي تخلَّت عن المرتبه الثالثة مُتراجِعةً إلى المرتبة الرّابعة في الاقتصاد العالَميّ، لتحلّ محلّها ألمانيا. وبما أنّ الفارقَ ضئيلٌ بين حَجْمِ النّاتج المحلّيّ الإجماليّ لكلٍّ من الاقتصادَيْن، تتطلَّع الهند التي أصبحت أكبر دولة في العالَم بعددِ السكّان إلى القفزِ من المرتبة الخامسة حاليّاً إلى المرتبة الثالثة، بعد الصين والولايات المتّحدة الأميركيّة.

في أحدث تقريرٍ لصندوق النقد الدولي، أُعلن عن معدّلاتٍ حول نموّ إجماليّ النّاتج المحلّي للاقتصاد العالَمي الذي بلغ 104.47 تريليونات دولار في نهاية العام الماضي، ووصَفَها بأنّها الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى30عاماً. وتُشير التوقُّعات إلى أنّ معدَّل النموّ العالَمي سيبلغ3.1 % العام الحاليّ، ثمّ يرتفع إلى3.2 % العام المُقبل. أمّا البنك الدولي، فقد وَصَفَ الاقتصادَ العالَمي بوضْعٍ أفضل ممّا كان عليه قَبل عام، حيث تراجعتْ مَخاطر حدوث الركود. وعزا ذلك إلى قوّة الاقتصاد الأميركي، لكنّه أشارَ إلى أنّ التوتّرات الجيوسياسيّة المُتصاعدة، يُمكن أن تتسبَّب بأخطارٍ جديدة، وخصوصاً مع تداعيات حرب روسيا في أوكرانيا، وتصاعُد الصراع بين (إسرائيل) و(حماس)، والاضْطرابات المُستمرّة في البحر الأحمر، وذلك وسط تباطؤِ معدّلات النموّ في معظم الاقتصادات الكبرى، وتباطؤ التجارة العالَميّة. مع العِلم أنّ هذه العوامل مؤثِّرة بصورةٍ كبيرة في المُعادلات الاقتصاديّة.

ويُلاحَظ أنّ التوقُّعات الاقتصاديّة العالَميّة للعام الحاليّ، مُتباينةٌ إلى حدٍّ كبير. ففي حين يظلّ النموّ بطيئاً في معظم أنحاء العالَم، يُتوقَّع أن تشهد الولايات المتّحدة، على عكس التقديرات السابقة، «هبوطاً ناعماً» خلال الأشهر المُقبلة، مع نموٍّ للناتِج المحلّي لأكبر اقتصادٍ في العالَم بنسبة 1.5 %. وفي المقابل تُواجِه منطقة اليورو تحدّياتٍ أقلّ حدّة، ما يُثير تساؤلاتٍ حول إمكان تجنُّب الركود، ولاسيّما في حال تقدُّم مساعي الدول الأوروبيّة نحو الالتزام بقواعد المُوازَنة التي تؤثِّر في الاستثمارات الضروريّة لتطوير الصناعة الخضراء. أمّا بالنسبة إلى الصين، فمِن المُتوقَّع أن يُواصِل مَسارُها الاقتصادي حراكَهُ البطيء؛ مع الإشارة إلى أنّه على الرّغم من التحدّيات الهيكليّة، تظلّ الاقتصادات النّاشئة مَرِنة وقادرة على الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة.

اليابان .. المُعجزة الاقتصاديّة

توقَّع «غولدمان ساكس» نموَّ اقتصاد اليابان بنسبة واحد في المئة في الربع الأوّل من العام الحاليّ. عِلماً أنّ هناك خطراً من حدوثِ انكماشٍ مرّة أخرى، بسبب تباطؤ النموّ العالَمي، وضعف الطلب المحلّي وتأثير زلزال العام الجديد في غرب اليابان. وقد يضْطرّ البنكُ المركزي لخفْض توقّعاته الورديّة للناتج المحلّي الإجمالي بشكلٍ حادّ لعامَيْ 2023-2024، بعدما فقدتِ اليابان بالتدريج قدرتَها التنافُسيّة والإنتاجيّة، وتراجَعَ موقعها إلى المرتبة الرّابعة بين كبرى اقتصادات العالَم، إذ بلغ ناتِجُها 4.21 تريليونات دولار في نهاية العام الماضي. وحلَّت محلّها ألمانيا في المرتبة الثالثة بناتجٍ بَلَغَ 4.46 تريليونات دولار. ويعود السبب في ذلك إلى أنّ الانكماشَ الاقتصادي مُرتبطٌ بتقلُّصِ عدد السكّان الذي انخفضَ بمقدار 800 ألف نسمة في العام 2022. وهو العام 14 على التوالي من الانكماش. وقد انكمَشَ النّاتج المحلّي الإجمالي بنسبة 0.1 % بعدما تراجَعَ بنسبة 0.8 % في الربع الثالث من العام الماضي. أمّا توقّعات المُحلِّلين، فقد أَشارت إلى نموّ الاقتصاد 0.3 %. فيما تُعَدّ الأرقام المسجَّلة للناتج المحلّي في الربع الرابع عكس توقُّعات المُحلّلين بنحو 1.4 %.

سَبَقَ أن أُطلق على اليابان، تاريخيّاً، بأنّها «مُعجزة اقتصاديّة»، بعدما نهضتْ من رماد الحرب العالميّة الثانية، لتُصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالَم بعد الولايات المتّحدة، وحافَظت على هذه المرتبة طوال أكثر من 60 عاماً، حتّى العام 2010، عندما تراجَعت إلى المرتبة الثالثة، نتيجة تقدُّم الاقتصاد الصيني الذي لا يزال يحتفظ بالمرتبة الثانية بناتجٍ بَلغ 17.7 تريليون دولار، بعد الاقتصاد الأميركي الذي بلغ ناتجه المحلّي26.9 تريليون دولار.

إضافة إلى ضعف «الينّ» الذي أَسهمَ في تراجُع الأداء الاقتصادي، بانخفاض قيمته بنسبة 7 % مقابل الدولار، وأدّى إلى تآكُل عائدات الصادرات لدى إعادتها الى الوطن، ما جعلَ العملةَ اليابانيّة من أسوأ العملات أداءً بين عملات مجموعة الدول العشر الصناعيّة، ثمّة عوامل عدّة يُواجهها الاقتصاد الياباني، لعلّ أهمّها»الشيخوخة»، وانخفاض عدد الأطفال، وقلّة العمالة.

وكانت اليابان قد شهدت «طفرة إنجاب» بعد الحرب العالميّة الثانية بين عامَيْ 1947 – 1949، إذ سهَّل قانونٌ صَدَرَ في العام 1948 عمليّات الإجهاض، ثمَّ تلتْ تلك الطفرةَ فترةٌ طويلة من انخفاضٍ في معدّلات الخصوبة، أدَّت بدَورها إلى «شيخوخة» السكّان. وقد بدأ العددُ بالانخفاض في العام2011، وقُدِّر في العام 2014 بنحو127 مليون نسمة، ويُتوقَّع أن يتقلَّصَ إلى107 ملايين في العام 2040 وإلى97 مليوناً في العام2050، ويشكِّل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم خمسةً وستّين عاماً أو أكثر، حوالى ربع إجمالي السكّان، وسيصلون إلى الثلث في العام 2050. وتُواجه اليابان أيضاً مشكلة نقص في العمالة، وتُعَدّ الهجرة أحد الخيارات المُتاحة.

ألمانيا ..»الرجل المريض»يبدو أنّ وضْع ألمانيا ليس أفضل من اليابان، وعلى الرّغم من أنّ اقتصادَها هو أكبر اقتصاد في قارّة أوروبا (العجوز)، فهي تحمل لقب «رجل أوروبا المريض»، ويُواجه اقتصادُها حالةً من الركود، مع ارتفاع حدّة المخاوف من تراجُع النموّ في ظلّ ارتفاع معدّل التضخُّم، وأسعار الطّاقة. وتتوقّع الحكومة أن يُسجِّل العامُ الحاليّ نموّاً قدره 0.2 في المئة فقط، وهو أقلّ كثيراً عن توقُّعاتٍ سابقة بنموّ 1.3 %، وذلك مع تضاؤل الآمال في تعافٍ سريع بسبب ضعف الطلب العالَمي، والضبابيّة الجيوسياسيّة، واستمرار ارتفاع التضخُّم. علماً أنّه سبق أن انكمشَ في العام الماضي بنسبة 0.3 %. وتوقَّع «المركزي الألماني» أن يَدخل أكبر اقتصاد في أوروبا في ركود، مع استمرار حَذَرِ المُستهلِكين وتراجُع الاستثمار المحلّي نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض بشكلٍ حادّ، منذ أن رفعَ «المركزي الأوروبي» أسعارَ الفائدة إلى مستوىً قياسي لمُكافحة التضخُّم.

إضافةً إلى ذلك، تتحمّل ألمانيا الأعباءَ الكبيرة النّاتجة عن تداعيات الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وقد بلغتْ تكلفة هذه الحرب على الاقتصاد الألماني نحو 160 مليار يورو، وتشكِّل نحو 4 في المئة من النّاتج المحلّي الإجمالي في نهاية العام 2023. وتَدرس الحكومةُ مُضاعفة المُساعدات العسكريّة الألمانيّة لأوكرانيا العام الحاليّ إلى 8 مليارات يورو، ما يَرفع الإنفاق الدّفاعي إلى ما يتجاوز هدف الـ (2 %) من النّاتج، الذي تعهَّدت به جميع الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

وتُعاني ألمانيا من نقصٍ كبير في الأيدي العاملة، وهي تَعتمد على الهجرة المُتاحة لتغطية هذا النقص. وفيما تحاول دولٌ عدّة تقييد الهجرة، أقرَّ البرلمان الألماني قانوناً جديداً لجذْب العُمّال المهاجرين المَهرة. وحذَّر بعض الوزراء من أنّ ملايين الوظائف الشاغرة تحتاج بالفعل إلى موظّفين، ووصفوا نقصَ العمالة بأنّه أكبر خطر يُواجِه الاقتصاد الألماني، وخصوصاً في وقتٍ تُواجه فيه البلاد أزمةً مُتفاقمة، مع ارتفاع نسبة «الشيخوخة»، ولاسيّما أنّ عدد كِبار السنّ سيتضاعف في السنوات المُقبلة، ليصلَ إلى أكثر من 5 ملايين شخص بحاجةٍ إلى الرعاية في العام2030، ثمّ إلى 7.25 ملايين في العام 2050.

الهند «الفتيّة»وبما أنّ الفارق ضئيلٌ بين النّاتج المحلّي الياباني والألماني، ومع أخطار المشكلات التي تُواجِه مستقبل الاقتصادَيْن، تَبرز قوّة الاقتصاد الهندي الذي يحتلّ المرتبة الخامسة عالَميّاً بناتجٍ محلّي يبلغ 3.73 تريليونات دولار، ويتطلَّع إلى المرتبة الثالثة بتحقيق أسرع وتيرةٍ للنموّ، وخصوصاً أنّ الهند أصبحت أكبر دولة في العالَم بعدد سكّانها البالغ 1.428 مليار نسمة، وهي دولة «فتيّة» لأنّ أكثر من 40 في المئة تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً، وهناك أكثر من 900 مليونٍ في سنّ العمل، ويُتوقَّع أن يتجاوز المليار خلال العقد المُقبل. وهي قوّة عاملة كبيرة، ومؤثِّرة في رأس المال البشري، وذات أجورٍ منخفضة نسبيّاً، ما يَجعلها نقطةَ جذبٍ للشركات الغربيّة التي تبحث عن مركز تصنيعٍ بديل للصين.

واللّافت أنّ الاقتصاد الهندي ينمو بأسرع وتيرة، بين الاقتصادات الكبرى؛ حيث زاد النّاتج المحلّي الإجمالي إلى 3.73 تريليونات دولارٍ في العام 2023. وتوقَّع بنكُ الاحتياطي الهندي نموّاً بنسبة 6.5 في المئة في السنة الماليّة 2023-2024. وهذا الرقم قريب من 5.9 % الذي توقَّعه صندوق النقد الدولي. وتُعَدّ الهند من أكبر البلدان الجاذبة للاستثمار. وقد سجَّلت رقماً قياسيّاً بَلَغَ 85 مليار دولارٍ، قيمة تدفُّق الاستثمارات الأجنبيّة خلال السنة الماليّة 2021-2022، بزيادة 60 في المئة عن السنة السابقة التي سجَّلت51 مليار دولار.

ويُسهِم قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتّصالات بأكثر من 13 % من النّاتج المحلّي الإجمالي للهند، ويُعَدّ من المحرّكات الاقتصاديّة الرئيسة. وفي العام 2023 سجَّلت صناعة تكنولوجيا المعلومات زيادةً بنسبة 8.4 % من إجمالي إيرادات 245 مليار دولار، منها 194 مليار دولار من الصادرات. وتهدف نيودلهي إلى تنمية هذا القطاع إلى تريليون دولار في العام 2025، بما يُعادل 20 % من النّاتج المحلّي الإجمالي المتوقَّع.

ووفق تقريرٍ للبنك الدولي، استطاعت الهند أن تُخفِّض من حدّة الفقر بنسبة 50 %، وأن تَرفع متوسّط نصيب الفرد من الدخل القومي، من 1500 دولارٍ في العام 2013 إلى 2380 دولاراً في العام 2022. لكن على الرّغم من هذا التحسُّن، فإنّ ثمة تحدّياً كبيراً يُواجِه الهند، يتمثَّل في سوء التغذية لدى نسبة كبيرة من السكّان، وبخاصّة الأطفال الذين تصل نسبة التقزُّم بين مَن يبلغون أقلّ من 5 سنوات إلى 35.5 %؛ ما يُعزِّز من أهميّة قضيّة «عدالة توزيع الثروة»، بجوار تحدّي استمرار تحقيق معدّلات نموّ مُرتفعة.

*كاتب ومُحلِّل اقتصادي من لبنان

*ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.