لدينا من جهود الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم مولفات عظيمة من التفسير النقلي كتفسير مجاهد بن جبر والمأثور كتفسير الثوري رحمهم الله . ومولفات عظيمة بل وموسوعات من التفسير الأثري كتفسير الطبري وتفسير ابن كثير. ولكن نحن اليوم بحاجة ملحة إلى علماء مفسرين تفسيرا عقليا، ويدعونه التفسير العلمي. ومثال ذلك من ما بدأ به الإمام الرازي قبل ٨٤٠ عام.

كان الرازي فخر الدين أبو محمد التيمي نسبة ألى أبو بكر رضي الله عنه، كان إماما للتفسير والكلام والعلوم العقلية وعلوم اللغة والفقه وأصوله، وكان يعظ بالعربية والفارسية.

توفي الرازي في عام 606 هـ وعاش ثلاثا وستين عاما. وقيل أن الكلامية أتباع محمد بن كرام السجستاني سقوه السم لأنه كان شديدا عليهم.

قال السيوطي في ارجوته "تحفة المهتدين بأخبار المجددين"

(والسادس الفخر الإمام الرازي ...... والرافعي مثله يوازي)

وكان الرازي مصلحا في الجانب الفكري والاجتماعي والأخلاقي، وكان يرى توثيق الصلة بالسلاطين لوعظهم ونصحهم وكان جريئا معهم وينصحهم فيبكيهم كالسلطان الغوري.

وكان يريد ربط الناس بالقرآن وتلك طريقته ومنهجه، ولذا كانت خطته في الإصلاح تقوم على أربعة أسس:

1-وضع القرآن موضع الدراسة والبحث والتحليل لأن طريقته أسمى من جميع الطرق الفلسفية والكلامية وخاصة للوقوف أمام الفلاسفة والملحدين.

2-اشتمال القرأن على مختلف العلوم والمعارف مما جعله الأسمى.

3-دعوة أصحاب العلوم والثقافات الأخرى إلى الإقبال على القرآن ولسوف يجدون فيه ما يريدون وزيادة.

4-إعادة الطمأنينة إلى القلوب والأمل في النفوس بالإقبال على القرآن لأن الناس كانوا يعيشون الخطر المغولي وقد هجم المغول على خراسان بعد سنوات من وفاة الرازي.

5-وقال عنه الصفدي اجتمع له: سعة العبارة في القدرة على الكلام، وصحة الذهن، والاطلاع الذي ما عليه مزيد، والحافظة المستوعبة، والذاكرة القوية.

وكان الرازي غزير التأليف فألف أكثر من ثمانين كتابا من أهمها تفسيره الكبير مفاتيح الغيب، والمحصول في أصول الفقه، وأساس التقديس في علم الكلام، وشرح أسماء الله الحسنى، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ونهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، ومناقب الإمام الشافعي.

تعريف بكتاب الرازي (مفاتيح الغيب):

لكتاب الرازي اسمان (التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب)، والهدف من تفسيره كان:

1-الدفاع عن القرآن، والاستشهاد بالعلوم والمعارف.

2-الدفاع عن العقيدة والوقوف في وجه الملحدين والماديين ورد الشبهات والمطاعن.

3-انتزاع زعامة التفسير من المعتزلة الذين تزعموا التفاسير العقلية فترة من الزمن مثل كبارهم ومنهم الجبائي، والأصم، والأصفهاني، والجشمي، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري. ونجح في إبطال استدلالاتهم بالآيات فلم يظهر بعدهم مفسرون معتزلة مشهورون.

4-بيان التناسق بين السور والآيات وتحقيق الوحدة الموضوعية للقرأن.

5-التوسع في التفسير البياني للقرأن والتطبيق العملي.

وكان له مصادر كثيرة ومنها تفسير الزمخشري (للبيان اللغوي) وتفسير أبي مسلم الأصفهاني، وتفسير الأصم، وتفسير الجبائي، وتفسير علي الرماني، وتفسير معاني القرآن للزجاج، وأحكام القرآن للجصاص الحنفي، وتفسير القرآن لأبن جرير الطبري.

وأخذ من تفاسيره كل من: البيضاوي، وأبو حيان الأندلسي، والقمي، والنيسابوري، والألوسي، ومحمد رشيد رضا. وقال عنه الدكتور محسن عبدالحميد أن الرازي كان ذروة المحاولة العقلية لفهم القرآن.

منهج الرازي في التفسير:

كان منهج الرازي هو التفسير بالرأي المحمود، فهو رائد هذه المدرسة، واسند على تفسير ابن جرير الطبري كموسوعته للأقوال بالمأثور في التفسير إلى جوار التفسير الأثري. ومن ثم كان تفسير الرازي موسوعة للتفسير العقلي. ويقول الدكتور محمد حسين الذهبي أن الرازي كان يكثر من الاستطراد في العلوم الرياضية والطبيعية، وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده، كما كان يعرض كثيرا لأقوال الفلاسفة بالرد والتنفيذ، وإن كان يصوغ أدلته في مباحث الإلهيات على نمط استدلالاتهم العقلية. كما إنه لا تمر عليه فرصة دون أن يعرض لمذهب المعتزلة بالرد على أقوالهم. ولا يكاد يمر بآية من آيات الأحكام إلا ويذكر مذاهب الفقهاء فيها، مع ترويجه للمذهب الشافعي بالأدلة والبراهين. لذك كان يستطرد في المسائل الأصولية والمسائل النحوية والبلاغية، وإن كان لا يتوسع في ذلك توسعه في مسائل العلوم الكونية والرياضية. وباختصار فتفسيره العلمي كان موسوعة في علم الكلام وفي علوم الكون والطبيعة.

ويظهر أن الرازي كان مولعا بالاستنباط والاستطراد في تفسيره مادام يجد صلة بين المستنبط إليه وبين اللفظ القرآني.

أهم مميزات تفسير الرازي:

1-التركيز على التناسق والتناسب في التفسير حيث كان يبين الصلة والربط بين جمل الآية وبين آيات السورة، ويقدم السورة باعتبارها وحدة موضوعية كاملة (وهذا ما أتى لا حقا في العصر الحديث ويسمونه حاليا بالتفسير التحليلي والتفسير الموضوعي الحديث).

2-إظهار جمال النظم القرأني وتطبيق نظرية عبد القاهر في النظم والتحليلات البيانية للآيات.

3-الأمانة العلمية والحياد الموضوعي في تقرير أدلة المخالفين وحججهم ومذاهبهم وبراهينهم، وهذه شهادة لنزاهته.

4-حصر الأراء والأقوال في القضية الواحدة مع أدلتها مما يريح القارئ في معرفة الأقوال فيها.

5-إبطال المذاهب الباطلة ونقض أقوالها وأدلتها والرد على الملحدين والماديين ودحض أقوال أهل الفرق كالمعتزلة والشيعة والمرجئة.

6-الموهبة الفذة في توليد المسائل وتسلسل المعاني والأفكار والنفس الطويل في المناقشة والجدال والرد. مما جعله منفردا في ذلك بين المفسرين.

7-التركيز على التفسير العلمي والاستفادة من العلوم والمعارف المختلفة في تفسير الآيات وتوسيع معانيها وعلومها (ماذا لوكان الرازي في عهدنا هذا؟)

8-ترك الإسرائيليات (أقوال بنو إسرائيل) والخرافات والأساطير التي ملأت كتب التفسير الأخرى لأنها لا تنطبق مع التفكير العلمي ونظرته العقلية.

9-الأسلوب العلمي التقريري الذي صاغ به الرازي تفسيره الكبير رغم صعوبة مسائله ومباحثه الفلسفية والعلمية والكلامية وهذا بسبب تمكنه من اللغة.