بعد صدور العدد الأول من مجلة التنوير، تحولت المدرسة إلى مكان مختلف. نشاط هائل دبّ فيها وتشكّلت موضوعات وقضايا لم يعهدها الطلاب والمعلمون. بالنسبة للطلاب ظهر موضوع عام لكل الطلاب خارج فضاء القضايا التقليدية مثل دوري الكرة، وجد شكل من أشكال التعبير عن قضاياهم خصوصا المقالة التي كتبت عن الأذى الجسدي والمعنوي الذي يتعرض له الطلاب بسبب تعديات المعلمين عليهم. طرحت المقالة لأول مرة قضية الحدود التي يجب أن يقف عندها المعلم وتحيط بخصوصية الطالب وكرامته، أي الخط الأحمر الذي يجب ألا يتجاوزه أحد. أيضا بدأت تتشكل شخصية الطالب النجم لا لأنه مفحطّ أو وسيم أو لاعب كرة مميز بل الطالب النجم صاحب الرأي، الطالب الكاتب. بالنسبة للمعلمين شعروا بوجود صوت طلابي جديد يراقب ما يجري وبدأت رؤية مغايرة للطلاب. أيضا صدرت مجلتان في المدرسة يشرف عليهما معلمون آخرون لمعادلة الكفة مع مجلة التنوير. باختصار تحولت ثانوية الحائر لبيئة فكرية نشطة مفعمة بالنشاط والحيوية.

إلا أن هذه الأجواء لم يكن يراد لها أن تستمر بسبب أن بعض المعلمين والمسؤولين لا يقبلون بوجود تنوع واختلاف داخل الفضاء التعليمي. محامو الصوت الواحد تحركوا بسرعة ورفعت قضايا متعددة ضد المجلة وضد المشرف عليها. تم التحقيق معي أكثر من مرّة من مركز إشراف جنوب الرياض وتم استدعائي أيضا من قبل إدارة التعليم. في ذلك الوقت كانت محاكمات السحيمي ومحمد سلامة على كل لسان. كنت أتوقع نهاية مشابهة ولكن التوقيت والفضاء العام حالا دون ذلك. كان عدد من الكتاب ينتقدون الخط المتطرف في الوزارة كذلك المسلسل الشهير طاش قدم حلقة تعكس ما تعرّض له عدد من المعلمين من مطاردات من قبل بعض التيارات، كانت الصورة رغم كل هذا مشوشة وكنت مستعدا لكل الاحتمالات.

مع الشكاوى الرسمية انقطع الحوار المباشر بيني وبين عدد من زملائي المعلمين. قلت لهم باختصار إنني لا يمكن أن أتحاور معكم بصدق وحب وأنتم تذهبون من خلفي لكتابة شكوى رسمية ضدي أو تحرضون المسؤولين ضدي. كل هذا من حقكم وليس لدي ما أخفيه ولكنه لم تبق هناك لغة للحوار. أكثر ما كان يضايقني إقحام الطلاب في الخصومات بين المعلمين. كنت أحاول قدر الإمكان تجنب الحديث عن أي زميل في الصف أو خارجه للطلاب، كنت أطمح في أن نقدم لهم نموذجا للكائنات العاقلة التي تستطيع أن تختلف بأدب واحترام. في المقابل كان بعض الزملاء يستخدم صغر سن الطلاب أو سلطته عليهم في التحريض عليّ. لكن حبي للطلاب لم يغادرني يوما ولم يختف من عيونهم أيضا. كنت أراهن على أن العلاقة المباشرة بيني وبين الطلاب كفيلة بتوضيح الأمور لهم بغض النظر عن كل ما يقال في الآخر. لم أكن أراهن على قبول مؤقت من الطلاب يمكن أن تحققه الدرجات أو التساهل في العمل بل كنت أطمح في معنى يبقى طول العمر من الاحترام والمحبة.

قررنا أن نصدر عددا ثانيا من المجلة وطلبنا مشاركات من الطلاب وحددنا طبيعة المجلة أنها باختصار مجلة نقدية وتعكس وجهة نظر الطلاب وتكتب بأقلامهم. وصلتنا مشاركات عديدة وأصدرنا العدد وأحدث ـ مثل الأول ـ ردود فعل مشجعة جدا. إلا أننا صدمنا حين أخبرنا الأستاذ محمد غزواني مدير المدرسة المكلف أن هذا سيكون العدد الأخير فقد وصلته توجيهات! كان هذا خبرا محبطا بشكل كبير فقد كنّا نطمح أنه مع العدد الثالث ستتجه كل الأطراف في المدرسة إلى نوع من الهدوء والاستقرار الذي يسمح باستمرار الحوار والنشاط الطلابي العام. كنّا نطمح بقدر من الوقت يجعلنا نوصل رسالة لكل الأطرف؛ للطلاب أن هذه المجلة صوتهم بدون أي اشتراط، وللمعلمين أن طلابهم يحبونهم وأنهم فقط يريدون أن يسمعوهم صوتهم وأن العلاقة الصحية هي في صالح المعلم قبل الطالب وأنها سوف تحرره من العلاقة التي يتورط فيها بتسلطه واستبداده على طلابه. كنّا أيضا نطمح بإيصال رسالة للمجتمع تقول إن المدرسة بدأت تقوم بواجبها وترفع حسّ المسؤولية عند الطلاب وتعطيهم الفرصة للتعبير والمشاركة. للأسف تم منعنا من التواصل مع كل هذه الأطراف لتتم إعاقة الحوار بشكل مخيف.

من الشواهد المحزنة على تعطّل الحوار العام في المدرسة أن شخصا أو مجموعة لا أعرفها كانت تأتي إلى طاولتي في غرفة المعلمين بعد أن أغادر المدرسة، وتعلّق ورقة تكتب فيها نصيحة أو اعتراضا أو نقدا. في اليوم التالي كنت أرد عليهم على ذات الورقة ثم يعود أو يعودون لاحقا للرد عليّ وهكذا. انتقل حوارنا للجدار وبأسماء مجهولة في مشهد حزين ومؤلم. مشهد حزين يعكس كيف يحجب الانغلاق الناس عن بعضهم ويقطع تواصلهم. كيف يحوّلهم من كائنات تساعد بعضها على التحرر إلى كائنات يرغب كل منها في قمع الآخر ومنعه من أن يكون نفسه. كنت أقول في نفسي لأخي الذي كان يرد عليّ يا أخي تكاثرت علي الحُجُب. فأنت لا تقبل أن أختلف معك وتحاول استعداء المسؤولين والطلاب علي وصوتي الذي حاولت إيصاله لك عن طريق المجلة تم قطعه، وخطبك في الطابور وبعد الصلاة التي تهاجمني فيها وتتهمني بكل التهم لم تبق للحوار بيني وبينك إمكانا عمليا. في المقابل كان الطلاب يمنحونني أملا لا حدود له وكنت ألجأ لهم لأقنع نفسي بأن في آخر النفق نورا. كنت ألجأ لهم لأتعلم كيف تصبح الحياة مستقبلا وحلما. في الأسبوع القادم سأنتقل للمجتمع وردود فعله.