من المعروف أن البناء الفكري الجديد لا يصل لمراحله المستهدفة "العليا" بين يوم وليلة، بل قد يحتاج إلى عقود من الزمن تزيد أو تنقص تبعا لمدى العمق ومستوى الإقناع والأسلوب وطبيعة المستهدفين بالتغيير. ولهذا أعتقد أنه من الإنصاف أن لا ننتظر نتائج سريعة لجهود مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في نشر ثقافة الحوار وترسيخها كقيمة اجتماعية وثقافية سائدة. فمن الواضح أن القائمين على الخطط الاستراتيجية للمركز يدركون أن تغيير أساليب حوار الكثيرين ممن تجاوزوا الأربعين عاما ـ الذين تربوا على تبادل السباب بسبب تباين الأفكار ـ لا أمل فيه، مهما حضروا من دورات في "أسس الحوار الحضاري" ومهما سمعوا وشاهدوا آخرين في مختلف دول العالم يختلفون على قضايا مصيرية حقيقة، ليست على شاكلة "هل تعمل المرأة في محل تجاري أم لا؟" بل الأدهى والأعجب أن تجد أحدهم لا تفارقه "حقائبه التدريبية في الحوار"، وقد يسافر في الشهر الواحد إلى أكثر من مدينة في شرق المملكة وغربها أو شمالها وجنوبها، من أجل تقديم دورات لـ"الناشئة" في فن الحوار وتقبل الرأي الآخر. ثم لا يلبث أن يدخل في وقت الاستراحة بين الفترات التدريبية على أحد مواقع التواصل الاجتماعي مثل "تويتر" و"فيس بوك"، سالا سيوف حروفه، يضرب بها يمينا ويسارا، شاتما هذا ومحتقرا ذاك، أو مثيرا للبلبة من خلال نشر إشاعات لم تخرج إلا من خياله الواسع. ولا تستبعد أن يكون مختصا كذلك في البرمجة العصبية، فلا بأس أن يتخلل الدورة "الحوارية" بعض من فنون ذلك العلم الذي أصبح مصدرا مهما لجمع المال والشهرة في وقت واحد.
ولذلك يبدو أن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني ينظر إلى الأطفال والشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين عاما على أنهم حجر الزاوية في نشاطاته المختلفة، ويحاول قدر المستطاع أن يشكل منهم نواة فكرية جديدة، تقوم على مبادئ الاعتراف بالتنوع الفكري وأحقية اختلاف الآراء دون أن يؤدي ذلك إلى صراعات شخصية واجتماعية وهذا أمر محمود. لكن هل سيجد مركز الحوار الوطني أو الجهات المسؤولة عن التربية والتعليم حلا يبعد هؤلاء الناشئة عن خطاب "رموز" الشتائم الذين يطلون بكامل قواميسهم الرديئة في كل وسيلة إعلام حديثة، وربما يجدهم الشباب أمامهم "مدربين متعمدين في فن الحوار" يلقنونهم فن نحت الشتائم ويحاضرون لهم عن خطر السلام أو الاقتراب من "فلان" صاحب "الفكر المشبوه"؟