لما كنا صغاراً ندرج صعودا في العمر كانت طرفتنا تسبق بكلمة "كان فيه جحا"، وكانت طرفة ساذجة وعفوية يختلط فيها الجد بالهزل، وتتداخل فيها الموعظة بالحكمة، وهكذا دائماً هي طرائف الأطفال التي تكمن في خلطهم الساحر للجاد بالساخر، وعدم معرفتهم مقاصد ومعاني ما يروونه من طرائف، لكننا لما كبرنا بدأنا نتلمظ ونستذوق النكتة على حقيقتها، وصرنا نضحك ونكركر ونقهقه، بل صرنا بحسب تلامس وتلاقي النكتة مع أمزجتنا المختلفة نستلقي أو نقع من فرط الضحك وشدته، فنجلس إن كنا واقفين وربما نستلقي إن كنا جالسين.. وكانت مصر حينها هي التي تصدر نكاتها للعالم العربي، حتى صار من المألوف أن نسأل أي قادم للتو من مصر عن آخر نكتة!

وقد كان البعض يجعلون من الظرف الاقتصادي وحالة الكفاف التي يعيشها المواطن المصري سببا في هذه الفطنة وسرعة البديهة، ولم أكن للأمانة ميالاً لهذا التفسير، ربما لأنني سافرت منذ الصبا إلى مصر ووجدت أن المصري مهما علا أو دنا في السلم الاقتصادي فإنه يجد قوت يومه، وربما لأني أدركت بعد حين من الدهر أن المواطن اليمني مثلاً أو المغربي أو الفلسطيني، ولا سيما ساكنو المخيمات أفقر حالاً وأشد عسراً، ومع ذلك لم يشتهر أي من المغربي أو الفلسطيني أو اليمني بهذه الروح الساخرة. وسأغلق على من يحاججني بأن الإعلام المصري بسطوته وحضوره قد سوق للمصري حضوره المرح في الذهنية العربية، وهي قد تكون حجة منطقية، لكنني لم أكن في حاجة للإعلام اليمني الغائب ليسوق للنكتة اليمنية عندي، فقد كنا وما زلنا غالباً نتعايش مع إخواننا اليمنيين الذين يعملون إلى جوارنا في المخازن والبقالات والورش والبناء ولم نلحظ أنهم أهل نكتة فارقة.

ومن باب أولى فإن الفلسطيني بقضيته الأزلية ومعاناته الطويلة وتهجيره القسري وسكناه في أرض الشتات في كل قطر عربي.. مع كل هذه الظروف الصعبة لم يكن إلا راوياً للنكتة المصرية، بل ويمعن البعض من غير المصريين في تزويق نكتهم وتمليحها من خلال روايتهم للنكتة باللهجة المصرية، لأن روايتها باللهجة المحلية الدارجة قد تنقص من ألقها وتخفض حجم بهاراتها.

لكن مع كل ما سبق فإن اللافت للنظر مؤخراً وخلال السنوات القريبة الماضية أن ساحة الظرافة والطرافة العربية قد شهدت دخول السعوديين كمنافسين، وصارت لذعة النكتة السعودية موجعة وحاضرة تسخر من كل ظرف طارئ، ومن كل حال مايل، ومن كل اعوجاج وانبعاج، وصارت النكتة السعودية منسجمة مع الحدث.. تتبعه وتعلق عليه تأييداً أو اعتراضاً. وأصبح الواقع السعودي مجسداً وعلى الفور من خلال تفاعل السعوديين مع الأحداث، ولا تفوتهم سانحة سلبية إلا ويباشرون جلدها والاقتصاص منها ومن فاعلها بسرعة قياسية.

لقد أصبحت السخرية السعودية معبراً لهموم الناس ومتنفساً لآمالهم وآلامهم. وأحسب أن كثيراً من المسؤولين قد صاروا يحتاطون ويتحسبون لسلوكياتهم وخطواتهم خشية الزلل والسقوط في (منشار) النكتة الاجتماعية التي تتولى عرض الغلطة على الناس في الهواء الطلق عبر توظيف سريع لوسائل التواصل الحديثة التي صارت هي قنطرة العبور والناقل الأسرع لهذه (الملح) وهذه النكت، بل صارت رسائل الـsms وأشرطة اليوتيوب هي خشبة المسرح، أو هي الشاشة التي تعرض من خلالها هذه النواتج المرحة والساخرة.

بالنسبة لأسباب هذا المد "التنكيتي" السعودي فإن أساتذة الاجتماع هم الأجدر بدراسة دوافع هذا التحول عند السعوديين الذين كانوا إلى عهد قريب يرسمون عن أنفسهم حالة معاكسة توحي بتكلفهم وثقل دمهم، لكن الأكيد أن الظرف الاقتصادي ليس هو السبب الوحيد في تغير المزاج السعودي المحافظ الذي كان قطاع عريض فيه يستعيب الهزل والسخرية ويميل للصرامة والجدية، وإن كنت أظن أن هامش الحرية الذي توسع خلال العقد الماضي مع مساعدة الوسائط الحديثة هو ما جعلها ناقلاً للنكتة وحامياً لصاحبها، يضاف إلى ذلك القنوات الفضائية الإخبارية (الجزيرة مثلاً)، وهي التي قد أسهمت في صناعة الرأي والرأي الآخر، إضافة إلى أن الفضائيات قد جعلت العالم صغيرا بما وسع من دائرة اهتمام المواطن السعودي بقضايا الغير وربما مقارنتها وتداخلها مع قضاياه المحلية.

آخر تفاعلات السعوديين الساخرة، وهي الأطزج، كانت عن انقلاب قطارنا الوحيد، حيث قيل إن أحد ركاب قطار الدمام/ الرياض قال لصاحبه: "خلاص سمعت أنهم سينشئون شبكة قطارات جديدة وسريعة في المملكة.. فانقلب القطار على ظهره من شدة الضحك".

وبمناسبة الحديث عن موجة السخرية السعودية المتنامية إليكم النكت المحلية التالية:

-"دجاجة لقوها متحجبة سألوها ليش"؟ قالت: "عندي تصوير إعلان ماجي في قناة إسلامية".

- كذلك يقال إن أحدهم سأله رفيقه: "عساك تصالحت أنت وحرمتك"؟

رد عليه: "وش أسوي جتني تزحف على ركبها"..

رد الأول: "أووووف! حركات.. منتب سهل يا مرعب.. وش قالت لك؟"

قالت لي: "اطلع من تحت السرير". ويروون مواقف يشتهر بها "الملاقيف" السعوديين، فمثلاً:

-"لما يشوفونك ماخذ جهاز اللاب توب للمصلح يسألونك يبي له تصليح؟ لا والله مطلعه أمشيه"!

-"يدق على تلفون بيتك ويسألك وينك فيه؟ ويني فيه! يعني في السوق وساحب السلك معي"؟!

-"تكون واقف عند الأصنصير في الدور الأرضي يسألونك طالع؟ لا والله أستنى الشقة تنزل لي"!

-"يشوف السيارة مصدومة يسألك مصدومة؟ لا والله نيو لوك newlook"؟