خلال السنتين الأخيرتين وضعت في أجندة اهتماماتي القيام باستطلاع عملي لمعرفة المخزون المعرفي الكمي والكيفي التاريخي الإسلامي في الوسط الاجتماعي الذي أعيش في عمقه ضمنيا. وقد تركز استطلاعي على شريحة الشباب تحديدا، مستهدفا الشريحة العمرية الواقعة مابين (12 و 35) عاماً. وبصدق فقد هالتني، بل صدمتني نتيجة ذلك الاستطلاع! فتخيل أن تكون نسبة (90%) من الشباب بمن فيهم معلمون لمراحل دراسية مختلفة، لا يعرفون الاسم الثلاثي لشخصيات عظيمة في التاريخ الإسلامي كالصحابة! والبعض لا يعرفون عدد سور القرآن الكريم، ولا يعرفون الكثير مما تجب معرفته عن أصول الدين، ويستفتون حتى عن حكم لبس القبعة (الكاب)! ويستفهم البعض عن حكم لبس الملابس الداخلية الملونة!

في المقابل، تنعكس النسبة بشكل ملفت عندما تجد غالبية ليست باليسيرة تعرف السير الكاملة لمعظم لاعبي كرة القدم، ونجوم السينما العالمية. تلك النتيجة لم تكن في الواقع إلا انعكاسا صريحا للصورة الحقيقية التي عليها أصل ثقافة شريحة هائلة من المجتمع الشاب. وهذا الغياب المعرفي لثقافة من المفترض أنها بدهية، وتمثل جزءا من أبجديات المجتمع العربي المسلم، أمر يبعث على القلق بشدة.

على الجانب الآخر من المشهد يظهر جليا التهافت الكبير على ما أستطيع أن أطلق عليه الثقافة البديلة. وهي تلك التي تُعنى بمعرفة ثقافة المحيط والمتغير الزمني الحديث وكافة تفاصيل يومياته، مثل أسرار أجهزة التكنولوجيا، وصيحات الموضة، ومتابعة أخبار نجوم كرة القدم، ونجوم السينما وغيرها، لتستحوذ على مساحة مهمة من لغة الثقافة الاجتماعية. وقد كان ذلك من تبعات الهجمة الإعلامية العالمية الضارية على نمط الحياة الإنسانية عالميا، فخُلق على اثر ذلك نوع من التلقي المعرفي للمعلومة المسموعة المرئية الموجهة، أسهم إلى حد بعيد في تغييب وإضعاف الهاجس القرائي المتمثل في نموذج (الكتاب) عند شريحة واسعة من أفراد المجتمعات. لكنها لم تكن كل شيء في الواقع. إذ لم تكن تلك النتائج لتكون بهذه القسوة في مجتمعاتنا العربية المسلمة لو أننا أوجدنا عمقا توعويا ثقافيا واجتماعيا مُسبقا، وتماهينا مع مستحدثات الواقع الجديد بالطريقة الصحيحة، بدلا من مبادراتنا العشوائية التي اعتمدت الرفض والعناد والمكابرة. وهو ما كبدنا ولا يزال المزيد والمزيد من الخسائر الفادحة. هذا المبدأ القاصر في أساسه هو أحد أسرار تخلفنا عن مواكبة الركب الانفتاحي الإنساني العالمي. وحسب نتيجة الاستطلاع فإن أصابع الاستفهام تشير إلى تقاعس دور المؤسسات الدينية في الوطن العربي، التي لم يكن لديها غير سلاح الوعظ المنبري "الحكوي" الرتيب في تقديم نفسها لعقل وروح المتلقي، وهو أسلوب لم تعهد سواه على امتداد حقب تاريخية بأكملها، ولا تزال تفضله كخيار أول -بكل سذاجة- رغم كل المتغيرات التقنية والفكرية والإيديولوجية العالمية! فتتخلف بالتالي على صعيد التواصل الدعوي والإرشادي، وتعجز عن ابتكار الحلول الكفيلة بجذب الجمهور، لتجد نفسها معزولة بشكل ما عن خارطة المجتمع كوعي وإحساس وتواصل حقيقي. وليكون حضورها التنويري صوريا لا أكثر! وحين تقدمت لتجربة التقنية الحديثة (القنوات الفضائية)، كرست جل برامجها للمهاترات والتسابق نحو من يربح أكثر! وتفرغ الدعاة لتلميع أنفسهم وتسويقها عبر الفضائيات، وتقديم شخصياتهم كفاتحين على شبكات التواصل الاجتماعي! دون أن نلمس ما يشير إلى عبقرية أو تفرد أو كاريزما (إلا القليل جدا منهم)، وهم أولئك الذين اعتمدوا الخطاب الفكري المؤصل للتواصل الاجتماعي.

هنا قد يقول البعض: إن هذا محض افتراء، فردود الفعل الاجتماعية المدافعة عن الدين ورموزه التي نراها بين الفينة والأخرى تشهد على الصلة الوثيقة بين الطرفين. أقول: نعم صحيح هذا يحدث، لكن ذلك منبعه الأصلي هو حمية وغيرة الانتصار للدين، وشعور حماسي اجتهادي فردي، يخلو من علامات التنوير المعرفي المستند إلى خلفية واعية، وأرضية ثقافية صلبة. وردات الفعل تلك إنما هي نتاج مجتمعات متدينة بالفطرة، تتداول في يومياتها المفردة والجملة الدينية بكثافة وبشكل هو أقرب للعادة، كعبارات (السلام عليكم، صلي على النبي، أسألك بالله، بالله عليك، حياك الله ...إلخ). وهذا ليس له علاقة بتأثير الطرق الدعوية أو الإرشادية أو التوعوية التي تتبعها المؤسسات الدينية أو خطباؤها في الوطن العربي قطعا. فدور تلك المؤسسات الدينية ورجال الدين يتجاوز ذلك بكثير. وفي وضع محزن كهذا يجدر بنا إطلاق التساؤلات العريضة عن ماهية الأدوار التي يُفترض أن تقوم بها المؤسسات الدينية، ومن يتبع لها من رجال الدين. وعن الآلية التي تُدار بها، وعن مقدرة وكفاءة العناصر البشرية المكلفة بأداء الرسالة الإرشادية، وحجم إدراكها لمهمة التوعية العظيمة، ومستوى تدريبها ونضجها، ومدى استفادتها من التقنية الحديثة لخدمة رسالة التنوير الفكري والمعرفي الديني، ونشره بكل أنحاء المعمورة.

أليس مؤلما أن نكتشف أن لاعبي كرة القدم أشهر من أعلام الأمة عند قاعدة عريضة من المسلمين؟