البداية كانت بريئة، ففكرة البخشيش تعود إلى العصور القديمة، حيث كان النبلاء والتجار يقدمون مكافآت صغيرة للخدم والعمال الذين قدموا لهم خدمات إضافية، أو لمن اجتهدوا في أداء واجباتهم. في أوروبا خلال العصور الوسطى، كان تقديم الإكراميات شائعاً كنوع من المكافأة للخدم في المنازل أو الفنادق، واستمر هذا التقليد حتى انتقل إلى المقاهي والمطاعم في العصر الحديث. في بعض البلدان كالولايات المتحدة، أصبح البخشيش عملياً جزء من الدخل الأساسي للعمال في قطاعات الضيافة، مما أفرز نظاماً اقتصادياً معقداً يعتمد على كرم الزبون في تحديد مستوى الدخل.
أما في المجتمعات العربية، فقد ارتبط البخشيش بمفهوم إكرام العامل، لكنه في بعض الأماكن تحول إلى عبء على العميل أكثر من كونه مكافأة، حيث أصبح الموظف يتوقعه كحق مكتسب بغض النظر عن جودة الخدمة. المشكلة الأكبر تكمن عندما يتجاوز البخشيش حدوده الطبيعية ليتحول إلى شكل من أشكال التسول المقنع. تجد البعض يمد يده بأسلوب موارب، لا يطلب المال صراحة لكنه يخلق ظرفاً اجتماعياً يجعل الامتناع عن الدفع أمراً محرجاً، مثل عامل يكرر عبارة «ما تنسانا يا باشا»، أو نادل يقف متجهماً بعد دفع الحساب منتظراً دون أن يقول شيئاً، في إشارة ضمنية إلى أن المبلغ المدفوع ناقص من وجهة نظره.
التجارب الدولية تعاملت مع هذه الظاهرة بطرق مختلفة، ففي اليابان يعد البخشيش تصرفاً غير مقبول بل ومهيناً أحياناً، حيث ينظر إلى تقديم الخدمة الممتازة على أنه واجب لا يحتاج إلى مكافأة إضافية. في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا، يدمج البخشيش في الفاتورة مباشرة مما ينهي الحاجة إلى التفاوض غير المعلن بين العميل والنادل. أما في الدول الإسكندنافية، فالثقافة السائدة تقوم على دفع أجور عادلة للعمال، بحيث لا يترك تقدير الدخل لمزاج الزبون أو مستوى كرمه.
في السعودية، حيث الكرم جزء أصيل من الثقافة، بقي البخشيش أمراً غير مقنن، لكنه بدأ يأخذ طابعاً مختلفاً مع زيادة الاعتماد عليه في بعض القطاعات. المشكلة الحقيقية ليست في إعطاء البخشيش لمن يستحق، بل في تحوله إلى نوع من الابتزاز العاطفي الذي يمارسه البعض عبر الضغط غير المباشر على العميل لدفع مبلغ إضافي. كما أنه يسهم في تقديم الخدمة للزوار بشكل متفاوت لمن يدفع أكثر!
يبقى الحل في إعادة تعريف العلاقة بين الزبون ومقدم الخدمة، بحيث يكون البخشيش اختياراً مبنياً على الرضا وليس على الشعور بالإحراج. كما أن على الجهات المختصة وضع أنظمة واضحة تضمن حقوق العاملين دون تحميل العميل عبئاً إضافياً غير معلن. كما أن عليها منع الممارسات التي تفرض البخشيش بطريقة غير مقنعة من خلال طلبات مثل قيمة الطاولة بدل الطلب أو تحديد وقت معين للجلوس في الطاولات..إلخ. وفي النهاية يبقى البخشيش عندما يكون عفوياً ونابعاً من الامتنان، هو التجلي الحقيقي لفكرته الأصلية: مكافأة المستحق، لا تمويل المتحايل.