لو خُيّرت بين زمن تحل فيه مشاكلك بفأسك، وزمن تحلها ببطاقة ائتمانك، فلن تتردد في اختيار الأخير. لكن المفارقة أن الفأس، رغم ثقله، كان يمنحك شعورًا بالسيطرة، بينما البطاقة تمنحك وهما فقط. نحن جيلٌ يرتشف قهوة إثيوبية في فنجان صيني، ويشتكي من برودة المكيف الكوري، بينما يرتعد من حرب على حدود القطب الشمالي. نعيش رفاهيةً ندفع ثمنها بعملتين: الأموال... والأعصاب.

لقد اشترينا راحة الحاضر بأموالنا، لكننا دفعنا ثمن أزماته بأرواحنا. الهاتف الذكي الذي تمسكه الآن ليس مجرد جهاز، بل حصيلة عرق عمّال فيتنام، وصراعات الكونغو على المعادن النادرة، وطموحات شركات التقنية في وادي السيليكون. حتى الشوكولاتة البلجيكية التي تذوب في فمك تحمل مرارة مزارعي الكاكاو في ساحل العاج. أما الهواء الذي تستنشقه، فهو ليس بريئًا كما تعتقد، بل فاتورة خفية «للمواطنة العالمية» تدفعها من رئتيك، بعدما ملأت المصانع الصينية سماءك بالدخان.

نحن جيلٌ يُمسك بحبال متشابكة. نشتاق لطمأنينة الماضي حين كانت مشاكلنا محلية الصنع: كجفاف الآبار أو هجوم الذئاب، لكننا في الوقت ذاته، نرفض التخلي عن «نيتفليكس» و«آيفون»، وكأننا نطالب الزمن بأن يعطينا: «بساط الريح» لكن مع«تكييف وواي فاي».


العالم لم يعد قريةً صغيرة، بل صار سوقًا عالميًا تُشحن فيه البضائع والأزمات في نفس الصندوق.

المشكلة لم تكن في منتجات العالم، بل في وَهْمِ أننا نسيطر عليها. فأنت حين تشتري هاتفًا صينيًا، فأنت تشتري - دون وعي - جزءًا من انبعاثاته الكربونية، وهموم العمالة الفيتنامية، وحتى مشاعر الذنب الأوروبية تجاه البيئة.

التقدُّم صار فخًا. كلما أسرعنا نحو «الرفاهية»، زادت خيوط الشبكة التي تُقيّدنا. ندفع ثمن الراحة بالقلق، وثمن الوفرة بالذنب. «القرية العالمية» لم تكن يومًا مجرد استعارة. فكل مكوّنٍ في حياتك هو امتداد لصراع في مكانٍ ما: البنزين الروسي يشعل حربًا أوكرانية، ومعادن هاتفك تموّل عصابات الكونغو، وحتى كوب القهوة الذي تمسكه الآن يذيب جليد القطب مع كل رشفة! العولمة جعلتنا جميعًا شركاء في الجريمة... دون أن نطلق رصاصة.

لكن، رغم كل ذلك، لا يمكننا إنكار أن هذا العصر منحنا فرصًا لم يكن أسلافنا ليحلموا بها. نحن أول جيل يستطيع التواصل عبر القارات بضغطة زر، وأول من يمكنه الوصول إلى كم هائل من المعرفة في ثوانٍ وأول من يمتلك القدرة على العمل والتعلم من أي مكان في العالم. صحيح العالم أصبح أكثر تعقيدًا، لكنه أصبح أيضًا أكثر اتصالًا وإمكانيات.

في الختام، تذكّر أنك تقرأ هذا المقال على جهازٍ صنعته أيدٍ لا تعرفها، وتغذي خوارزميات لا تفهمها، لكن لا تقلق... فأنت لست وحدك.

كل سكان «القرية الصغيرة» يعيشون التجربة ذاتها. قد لا نملك السيطرة المطلقة على كل شيء، لكننا نملك الاختيار: أن نستهلك بوعي، أن نعيش برضا، وأن نحلم بمستقبل لا يكون فيه التقدُّم على حساب أرواحنا.