وانطلقت بالفعل المشاورات الأولية على مستوى وزراء الخارجية بعد وصول الوزير الأمريكي ماركو روبيو، والروسي سيرغي لافروف وممثلي الأجهزة الأمنية والعسكرية المعنيين، فيما يتوقع وصول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الرياض، صباح اليوم، في زيارة رسمية للمملكة للتباحث مع المسؤولين السعوديين حول القضايا المشتركة التي تهم البلدين.
ويؤكد هذا الحدث الذي ينتظره العالم أجمع بترقب شديد مكانة السعودية بوصفها دولة قائدة يتجاوز مداها وتأثيرها الإيجابي محيطها الإقليمي ليصل إلى العالم بأسره، وذلك من واقع ثقلها السياسي على الساحة الدولية والاحترام والموثوقية التي يتمتع بها قادتها نتيجة لسياساتها الراسخة التي عرفت بها منذ توحيدها، والتي قامت على مبادئ ثابتة في مقدمتها الوضوح والشفافية، وعدم التدخل السالب في شؤون الآخرين، واتباعها نهج الوسطية والاعتدال والتسامح.
وخلال الأيام الماضية، ظلت السعودية في قلب تغطية وسائل الإعلام العالمية، بمجرد أن أعلن الرئيس الأمريكي اختياره للرياض للقاء نظيره الروسي، ولم يكتف بذلك، بل أكد بوضوح أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سوف يكون مشاركا رئيسيا في المفاوضات التي تتناول الأزمة الأوكرانية، وهو الاختيار الذي قوبل بارتياح كبير من جميع الأطراف الدولية عطفا على ارتفاع مؤشر الثقة العالمي بالمملكة.
وبالنظر إلى الموقف السعودي من هذه الأزمة التي أصابت تداعياتها العالم كله، وكان تأثيرها السلبي واضحا للعيان، نجد أن الرياض اختارت موقفا وسطيا حيث لم تصطف إلى أي من الطرفين المتصارعين، بل وقفت على مسافة واحدة منهما، ولم تكتف بذلك، إنما بدأت مساعيها الدؤوبة لمحاولة التقريب بينهما وإيجاد قواسم مشتركة يمكن أن تجمع بينهما، إضافة إلى تقديم مساعدات إنسانية لأوكرانيا. كما نجحت بجدارة في توصيل الطرفين إلى اتفاق بإطلاق سراح عدد كبير من الأسرى، واستضافت في أغسطس 2023 الاجتماع الثاني لمستشاري الأمن الوطني من 40 دولة لبحث سبل إنهاء الحرب.
ويتجلى الموقف السعودي الوسطي من الأزمة في احتفاظها بالتواصل الإيجابي مع الطرفين ودفعهما باستمرار للاتفاق حول وقف إطلاق النار ومحاولة البحث عن حلول سلمية مرضية لكليهما، لذلك فقد حصلت على احترامهما معًا، وهو ما يؤكد مكانتها المرموقة وسط دول العالم وقدرتها على التوسط لحل الأزمة.
وإن كانت السعودية قد نجحت مرات عديدة في لعب دور الوسيط الناجح في قضايا إقليمية ملحّة مثل اتفاق الطائف الذي وضع حدًا للحرب الأهلية في لبنان عام 1989، واتفاق السلام الذي أنهى القطيعة بين إثيوبيا وإريتريا عام 2018، وتوقيع اتفاق المصالحة بين إريتريا وجيبوتي في العام نفسه، إضافة إلى العديد من الاتفاقيات بين دول المنطقة، إلا أن ما يحدث الآن في الرياض يمثل سطرا جديدا في مسيرة الوساطة في القضايا الدولية الكبرى. واللافت هو أن الرياض لم تطلب ذلك، بل جاء نتيجة لطلب أمريكي وموافقة فورية من جانب روسيا، وهو ما يعكس حجم الثقة العالمية في الدور السعودي.
وبطبيعة الحال ستكون القمة الأمريكية الروسية ووجود قادة العالم في الرياض فرصة سانحة لمناقشة قضايا أخرى تتعلق بالأزمة الفلسطينية وسبل إيجاد حلول ناجعة لها، لا سيما من واقع الدور القيادي الذي تضطلع به المملكة وموقفها الثابت من الأزمة، حيث تتطلع إليها الأنظار للقيام بهذا الدور.
هنا تنبغي الإشارة، تأكيدا لمكانة المملكة المرموقة بين دول العالم، إلى أنها المحطة الأولى للرئيس الأمريكي دونالد ترمب عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. كما أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان - حفظه الله - كان أول قائد ومسؤول عالمي يتصل به ترمب في ولايته الرئاسية الجديدة.
كذلك فإن الدور الكبير الذي قام به الأمير محمد بن سلمان، والجهود الضخمة التي يبذلها، والحكمة التي يتحلى بها في قراراته وتصرفاته كافة، أسهمت في حصول السعودية على هذه المكانة العالمية السامقة، والتقدير الكبير الذي تحظى به في كل المحافل.
فقد أثبت من خلال رؤيته السياسية الطموحة، وإدارته الفعّالة للملفات الإقليمية والدولية، قدرته على بناء جسور الحوار بين القوى الكبرى، وهو ما أتاح له الفرصة للعب دور محوري في تخفيف حدة التوترات، وتعزيز فرص التفاهم بين الدول العظمى. إضافة إلى مساعيه المستمرة في تفعيل القنوات الدبلوماسية لحل الأزمات، وإيجاد توازن في العلاقات الدولية، بما يحقّق المصالح المشتركة، ولا سيما في ظل التحديات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم.
ففي هذا العهد الزاهر استحقت السعودية بجدارة أن يطلق عليها لقب «عاصمة الثقة» لدى المجتمع الدولي في حل النزاعات بفضل المحدّدات الواضحة التي تتصف بها سياساتها، وفي مقدمتها السعي لإحلال السلم والاستقرار العالمي، وقدرتها على الحفاظ على علاقات متوازنة تمنحها الاحترام لدى الجميع، وأياديها البيضاء وإسهاماتها المتنوعة، حيث لا يكاد يمر أسبوع دون أن يزورها عدد من رؤساء الدول ومسؤولوها البارزون الذين يبحثون فيها عن حلول لقضايا مهمة وجوهرية.
وهكذا تواصل المملكة الاضطلاع بدورها الريادي الذي عرفت به على مدار تاريخها، واحة للسلام وقبلة للاعتدال ودولة ذات وزن كبير ومكانة فريدة، أسهمت على مدى عقود في ترسيخ الأنظمة الدولية ودعم السلام حول العالم، وهي تملك القدرة على مواصلة القيام برسالتها بإذن الله.