ثم إن أطرافاً خارجية عدة، ومنها الولايات المتحدة، تثير على الدوام مسألة «المقاتلين الغرباء» الذين كانوا متمركزين في إدلب لكنهم يظهرون في مناطق أخرى بسلوكيات مستفزة للسوريين، ويشار إلى أنهم اتهموا على نطاق واسع بارتكاب المجازر في حق المدنيين خلال اضطرابات منطقة الساحل أوائل مارس الماضي. وكانت الإدارة الجديدة أدخلت عدداً محدوداً من هؤلاء الغرباء في كادر وزارة الدفاع، وبررت ذلك بخبراتهم وبأدوار قتالية قاموا في مرحلة الحرب ضد النظام السابق. لكن خبراء أمنيين يعدون أن هؤلاء المقاتلين يشكلون معضلة صعبة ومعقدة، إذ يُعدون بضعة آلاف ينتمون إلى جنسيات عربية وآسيوية، وليس لدى السلطة الحالية أي تصور واضح لما يمكن أن تفعله لاستيعابهم أو التخلص منهم، ولا تستطيع تجنيسهم لاحتوائهم فيما هي تجرد من جنسهم نظام الأسد من الجنسية. ولا يخفي بعض المصادر خشيته من أن ينضموا إلى «داعش» أو يتحولوا إلى «داعش» آخر.
لكن ما قفز إلى الواجهة في الأسابيع الأخيرة كان المستوى الإقليمي من الأخطار، خصوصاً مع مضاعفة إسرائيل اعتداءاتها وتوغلاتها المرفقة بإعلان الجنوب منطقة منزوعة السلاح، أو محرمة على قوات الأمن التابعة لسلطات دمشق. وفي الأثناء استمرت إسرائيل في حملتها على القدرات الدفاعية السورية، مستغلة انحلال الجيش مع سقوط النظام السابق، ولم تكتفِ بما أعلنته سابقاً عن تدمير 80 % من تلك القدرات بل راحت تستهدف المطارات العسكرية والبنى التحتية من مراكز بحوث ومبانٍ جامعية. ولأن سوريا- أحمد الشرع لم تشكل أي تهديد لإسرائيل ولا يمكنها مواجهتها ولا تريد أن تُستدرج إلى تفاوض من موقع ضعف معها، فقد بدأ التنافس بين توقعات أمريكية لـ«تطبيع» سوري- إسرائيلي، وبين اتفاق دفاعي محتمل إبرامه بين سوريا وتركيا.
تردد الحديث عن «الاتفاق الدفاعي» في الإعلام، خصوصاً التركي، ولم تنفِ أنقرة ما يُتداول عنه بل تركته يتفاعل لتقويم أصدائه، وتلقفته إسرائيل لتستغله في تبرير انتهاكاتها للأراضي السورية. أما دمشق فلم تؤكد ولم تنفِ، لكنها تشاورت فعلاً مع الأتراك في ما يمكن أن تفعله، والأرجح أن الحكام الجدد يحتاجون إلى مساعدة في مواجهة المأزق القائم ويلتزمون الحذر، فإذا كانت تركيا وجهة منطقية وممكنة تعاملوا ويتعاملون معها إلا أنهم يخشون انعكاسها سلباً على تفعيل توجهاتهم العربية وتعزيزها، خصوصاً أن السعودية تتموضع على أن لديها تكليفاً دولياً لإدارة «ملف سوريا ولبنان» أو جزءٍ منه، وقد رعت اتفاقاً لترسيم الحدود بينهما. ثم إن دمشق لم تتلق من شروط واشنطن وإشاراتها ما يمكنها من تقدير الموقف الأمريكي من سوريا لتحدد كيفية التعامل معه، ومن جهة أخرى لا ترى في التطورات المتسارعة ما يدفعها إلى حسم «إعادة شرعنة» احتفاظ روسيا بقاعدتيها في حميميم وطرطوس.
بعد القصف الإسرائيلي الأخير لـ«تي فور» في تدمر ومطارات أخرى في حمص وحماة ذُكر أن الهجمات رسالة تحذيرية إلى تركيا لمنعها من استخدام أي قواعد سورية والانخراط في إعادة تأهيل الجيش السوري. قبل ذلك وبعده عقدت الحكومة الأمنية الإسرائيلية اجتماعات كان محورها المعلن الوجود التركي في سوريا، مما أظهر أن الدولتين متجهتان إلى صراع على سوريا، وعلى رغم قولهما علناً إنهما لا تريدان هذا الصراع فإنهما تؤكدان عملياً أن كلاً منهما لا تستطيع التعايش من وجود عسكري للأخرى على حدودها. لكن هناك فراغاً في سوريا ينبغي أن يملؤه أحد، ولأسباب كثيرة تبدو تركيا أكثر تأهلاً لدور كهذا لكنها تبحث عن تفويض عربي لا يكفي ولن تحصل عليه، أو تفويض أمريكي سيشترط بالضرورة أن يكون هناك تفاهم/ تقاسم بين الطرفين. أما إسرائيل فتعمل على انتزاع «حصة» في سوريا موقنة بأنها ستحصل على دعم من أمريكا- ترمب، لكن عليها أن تحقق نتائج في سعيها إلى تفتيت سوريا كي تتوصل إلى أهدافها. وللأسف، فإن لديها من الانقسامات الداخلية السورية ما يساعدها.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»