اعتبر الكاتب والشاعر العراقي جبار ياسين أن المشكلات والأزمات التي يعاني منها المواطن العربي هي في المقام الأول أزمة وعي وثقافة قبل أن تكون أزمات سياسية واقتصادية.

ورأى أن هذه الأزمة الثقافية الكبيرة ليست وليدة اليوم بل تعود إلى أكثر من خمسة عقود من الزمان، وقال جبارالمقيم بباريس منذ سنوات طويلة لـ"الوطن": نحن الآن نعاني من تفاقم تلك المشكلات ونتائجها، لكنها قد بدأت في العالم العربي مع الحركات الثورية العسكرية التي استلمت السلطة في العديد من البلدان خصوصا في البدان التي كانت تعد في ذلك الوقت مرتكزا رئيسا للحياة الثقافية العربية مثل مصر والعراق. وتابع: السلطات العسكرية حولت أهم البلدان التي كانت تشع بالثقافة والاستنارة إلى مراكز ثانوية وكذلك الحال بالنسبة للبنان أيضا، وكانت المشكلة أنه مع سيطرة هذه السلطات تحولت ثقافة الريف في هذه البلدان إلى المدينة بل وطغت عليها.

إن ردود الفعل تجاه الهزائم العسكرية التي شهدتها المنطقة خصوصا مع إسرائيل جعل المعارضة بدلا من أن تتجه إلى الانفتاح الثقافي على العكس تتمسك بالتشدد الديني الذي هو أبعد ما يكون عن جوهر وتعاليم الإسلام. وتعددت فرق المعارضة وتمسك كل منها بتفاسير بعينها للدين حتى إننا اليوم نشعر وكأننا نواجه مجموعات لكل منهم إسلامهم، على الرغم من أن الإسلام قد انطلق من فكر منفتح وقابل لأفكار الآخر واستمر هذا الوضع لما يقرب من 1400 عام تقريبا. هذا التحيز الفكري الذي سيطر على عقول المعارضة هو نوع أيضا من العجز عن مواجهة الأسئلة والحلول التي تطرحها الحداثة التي غمرت العالم. المشكلة بطبيعة الحال أعمق من ذلك ولها العديد من الجوانب ولكن المحصلة أننا لم نتمكن بأي شكل من الأشكال من استيعاب التقدم الهائل الذي حدث في النصف الثاني أو في أواخر القرن العشرين من سرعة تناقل المعلومات التي غمرت العالم.

وحول ما إذا كان ما يحدث يمثل بوادر نهضة ثقافية عربية؟

قال جبار: الحقيقة الآن الأفق مفتوح على جميع الاحتمالات، ولكن هناك مشكلات أخرى قد تراكمت خلال تلك العقود التي تحدثت عنها في مقدمتها أننا لم نعد منذ فترة طويلة نمتلك المثقفين والمبدعين القادرين على طرح التساؤلات الكبرى مثل طه حسين على سبيل المثال، إضافة إلى أن الأجيال الجديدة لا تملك قاعدة ثقافية صلبة، فشخص مثل لطفي السيد كان يعمل من أجل الأجيال الشابة لذا نجد الجيل الذي جاء بعد هؤلاء العمالقة جميعهم من المتمييزين أمثال نجيب محفوظ ويوسف أدريس وأحمد بهاء الدين وغيرهم كثيرون في مصر والعراق ولبنان وسوريا وغيرهم من البلدان العربية من بعدهم لم يعمل أحد من أجل الأجيال الشابة بل على العكس اندفع الشباب خلف الثقافة السطحية عبر الرسائل الإلكترونية والمواقع وما شابه من دون ضوابط شرعية أو دينية أو مجتمعية، من جهة أخرى تراجعت الثقافة المقروءة إلى أبعد حد. أليس من الغريب ألا يكون لمفكر مثل محمد أركون أي حضور لدى الطبقة الشعبية على الرغم من ترجمة بعض أعماله إلى العربية وعلى الرغم من محاولته لتقديم أجمل المفاهيم الإسلامية شديدة البعد عن الانغلاق والتشدد. الواقع يؤكد على أن التحديات كبيرة جدا أمام نهضة ثقافية كبيرة وسريعة، وأصعب ما فيها هو أننا لم نبد أي اهتمام حقيقي بالأجيال الجديدة.

وينقى جبار أن تكون إجاباته تحمل الكثير من التشاؤم، ذاهبا إلى أن المسألة عقلانية بحتة لا علاقة لها بالتشاؤم والتفاؤل. وقال : علينا أن نقرأ التاريخ، ومشكلة العرب أنهم لا يقرءون ولا يستفيدون من التاريخ. فننظر إلى حقبة الأندلس وكيف كانت فكرة عمران المدينة هامة جدا، وعمران المدينة الذي لم نهتم به منذ عقود يعني التربية المدرسية وإقامة المكتبات والمطابع والقدرة على التزاوج الثقافي، بالنسبة لنا لم يحدث لدينا أي تزاوج ثقافي حقيقي منذ ما يقرب من نصف قرن.

نحن أمام مشكلة ثقافية تتمثل في عدم استيعاب فكر العصر ولا حتى المرحلة التي تعيشها البشرية. الحل وهو صعب وليس بالسهل هو العمل من كافة تيارات المجتمعات العربية من أجل تأسيس دول مؤسسة للحضارة الإنسانية. ربما لهذا قلت إني لست متفائلا في السنوات القادمة حيث إن هذا التأسيس يحتاج إلى وقت وصراعات ورغبة حقيقية في التنوير والانفتاح وإعادة المنطقة العربية لما كانت عليه من قبل حينما كانت تحتضن أهم مراكز الإشعاع الثقافي.