السلفي الحق الذي يعمل بما تمليه عليه النصوص الشرعية لا يُمكن أن يقف موقفاً يتنازل فيه عن شيء من أحكام دينه، وليس من حقه شرعاً أن يتنازل عن شيء والنصوص أمامه واضحة دالة على حرمة الأمر وعدم جوازه، كما ليس من حقه تأويل النصوص وصرفها عن ظواهرها كي تتوافق مع ما يريده؛ بل ليس من حقه العمل برأي فقهي هو لا يراه، وإنما يرى مخالفته واجبة، وذلك من أجل أن يتوافق مع توجه سياسي.

وهذا الأمر له عليه أدلة كثيرة من القرآن الكريم، منها قوله تعالى ﴿فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ ما جاءَتكُمُ البَيِّناتُ فَاعلَموا أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ ﴾ [البقرة: 209] فليس من حق أحدٍ بعد ورود النص من الكتاب أو السنة أن يتخذ رأياً لحاجة ما.

هكذا هو السلفي الحق حينما يريد أن يعمل على وفق سلفيته، أما إذا أراد غير ذلك فلن يكون في إرادته تلك سلفياً.


ومن حق السلفي السكوت عن المنكر وعدم إظهار إنكاره علانية، بل والسكوت عنه مطلقاً إذا علم أن هناك من أهل البر ممن هم فوقه رأياً ومكانة من يُبَلِّغون الإنكار إلى حيث يريد من القادة والمسؤولين بخفاء وسرية؛ وليس ذلك تنازلاً للسياسة أو إحلالاً لمحرم أو تحريماً لحلال أو تخاذلاً عن واجب؛ بل عملاً بالنصوص وحفاظاً على الخير ودرءاً للفتنة وتقديماً للمصالح على المفاسد؛ وكان هذا ولا يزال دأب علماء المملكة المعتبرون، وكبارهم المعروفون، كالشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين والشيخ عبدالعزيز آل الشيخ والشيخ صالح الفوزان وغيرهم؛ فلم نسمع لهؤلاء ولا لأمثالهم تنازلاً عمَّا حرمه الله بالتحليل؛ وقد سار على هذا المنهج كل السلفيين الذين يسيرون على المبدأ ولا يتغيرون عنه. نعم قد حاد عن ذلك بعض المشايخ الذين ليس لهم عمقٌ في العلم، أو ليس لهم إيمان صحيح بكل ما في منهج السلف، فيتبعون ما تتلقاه أهواؤهم ويظنونه هو الصحيح، كما قال تعالى قال تعالى «أَفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعوا أَهواءَهُم» [محمد: 14] لكن أولئك ليسوا ممن تبع السلف في هذه الجزئية، نعم قد تبعوا السلف في دعاء الله وحده لا شريك له، وعدم دعاء غيره، وتنزيه الله عن تعطيل أسمائه وصفاته أو تحريفها، والقول بقضاء الله وقدره؛ وهذه الأمور لا شك في لزومها لكل مسلم؛ لكن من تبع السلف في هذه الأمور المهمة ليس بالضرورة تابعاً للسلف في كل شيء، إذ قد يخفى عليه من مذهب السلف أشياء مع أنه في الأصل ينتسب إليه.

كما أن هناك من أنصاف المتعلمين ومن لا علم عندهم ومن عندهم علم من السلفيين من يملؤهم الحسد لبعض السلفيين أمثالهم ممن يقولون بقول السلف في كل شيء من أمور العقائد والعبادات وأمور السياسة فتجدهم بباعث من هذا الحسد يؤلبون على هؤلاء وينسبونهم إلى جماعات وإلى أحزاب وغير ذلك مما يبرؤون منه، وهذا العمل ليس من السلفية التي هي فهم الإسلام على وفق فهم السلف الصالح، إذ السلف الصالح بريئون من الغيبة ومن النميمة ومن القول على الناس بلا علم، كيف لا وهم قد وقع بينهم السيف ولا يُعلم أنهم تحدثوا عن بعضهم بمثل ما يتحدث به هؤلاء عن إخوانهم من السلفيين؛ بل إذا كنا منهيين أن نتحدث عمن لم يجاهر ببدعته، ومنهيين عن الحديث عمن جاهر ببدعته في غير ما جاهر به، فكيف بالحديث عمن لم يظهر منه إلا السير على المنهج الحق ؛ وفيما أتصور أن ذلك من ابتلاء بعض الخلق ببعض فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وقد حدثت قبل أيام فتنة من هذا النوع شارك فيها الطرفان المتناقضان على حد سواء، منابذو المنهج السلفي من الإخوان ومن تأثر بهم، وموافقوه ممن قَدمتُ حالهم من غلبة الحسد عليهم، وكان حديثهم عن حزب النور المصري السلفي، وذلك أنهم اتهموه بالخنوع والوصولية والتنازل عن أمور شرعية، وغير ذلك من التهم؛ ومما يؤسف له أن بعضاً ممن أثار الزوبعة على الحزب بعضُ السعوديين ممن لا يعرفون واقع الحزب ولا ما يجري له ولا ما يقف دونه.

فقد ظهر هذا الحزب في بلاد تجيز الأحزابَ سواء شارك فيها السلفيون أم لم يشاركوا، وذلك كمجلس الأمة في الكويت وقد أفتى الشيخان ابن باز وابن عثيمين بجواز المشاركة فيه؛ بل قال الشيخ ابن عثيمين بوجوب ذلك على أهل الخير؛ وبالفعل دخل الحزب في البرلمان وأصلح في الدستور ما لم يكن الإخوان المسلمون يتوقعونه، حيث نجح في اشتراط الشريعة مصدراً. للتشريع بينما كان الإخوان رغم أغلبيتهم متنازلون عن هذا الشرط؛ واستمر الحزب بعد الثورة ووافق على ما جعلوه خارطة الطريق، وليس من بين ما وافقوا عليه سجن من سُجن ومحاكمته لأن تلك الأمور لم تعرض على البرلمان، وبقي الحزب حتى اليوم في البرلمان بالرغم من المطالبات العلمانية بإلغائه على أساس أنه ذو خلفية دينية، ولم ينكر الحزب ذلك، بل قال إنه على خلفيةٍ سلفية؛ ووضعت في الانتخابات قبل الأخيرة أنظمة كان من المتوقع أن تطيح بحزب النور مثل نظام اللوائح وليس هنا مجال شرحه لكن المعروف أن الحزب تغلب عليها، ولم يلجأ إلى أي تنازل عن مفردة من مفردات الشريعة، وكذلك الأمر حينما اشترطت الحكومة ترشيح نصراني وقام الحزب بالترشيح، إذ ليس في ذلك بأس، فليس النصراني هو المرشح الوحيد، كما أنه ليس المرشح الناجح فنال الحزب بهذا الأمر بقاءه في الانتخابات، ولم يُمَثل بمن لا يليق به.

المهم أن حزب النور وإن كان طيلة فترات البرلمان يُحارَب بضراوة كي لا يصل منه عدد كبير منهم إلى مقاعده، فإنه لم يقدم أي تنازل عن مفردات الشريعة ؛ بل وكان لوجود أعضائه وهم أقلية من الثمرة ما ليس له نظير، ومن ذلك:

أن الجيش قبل رئاسة السيسي وثق بهذا الحزب لموافقته على خارطة الطريق التي لم يكونوا يتوقعونها، وقد صرح كثير من العلمانيين بعد الثورة عن أسفهم لموقف الحزب هذا لأنهم كانوا يتمنون أن يوضع المتدينون كلهم والإخوان في سلة واحدة وأن يجري عليهم ما يجري على الإخوان من السجن؛ وحقاً أعطى هذا الموقف أماناً لكل المتدينين في مصر، وعلى الأخص كل الملتحين.

كما استطاع الحزب بهذا الموقف المحافظة على كثير من نشاطاته الدعوية، ومعلوم أن الأنشطة الدعوية وإمامة المساجد حصرت في مصر بالأزهريين، وحوربت السلفية حرباً شعواء لكن الحزب استطاع بموقفه ذلك درء كثير من الشر عنه.

وفي داخل البرلمان كان لأعضاء الحزب وقفات ميمونات مباركات قد آتِيْ عليهن في مقالٍ آخر.

ونهاية المطاف هو هذه الحملة الجائرة على الحزب بسبب موقفه الشرعي والعقلاني الذي فند وقصم فيه بيان ما يسمى اتحاد علماء المسلمين، ذلك البيان الرديء الصبياني الذي يخالف قول الله تعالى وقول رسوله. كما يخالف وقائع السيرة النبوية؛ وذلك بأمر الشعوب بالخروج إلى القتال في فلسطين دون رعاية لطاعة الحاكم، ودون نظر في اعتبار قوة، ودون رعاية لعهد؛ وكأن الجهاد من ألعاب الأطفال التي يعبثون بها على التلفزيون.

وهذه الفتنة لم تنشأ لدينا في السعودية حيث الناس ممتلئون من الحكمة والمعرفة، وقد كانت فتاوى الشيخين الراحلين ابن باز وابن عثيمين عاصمة لهم، والحمد لله رب العالمين.