يقول الروائي السعودي حسين الجفال: "الموت.. شبح قبيح معتم يحمل وجوها لا نهائية ولا يشبه أي منها الآخر. يتلبس وجها مختلفا بكل زيارة".
وكما قيل بأن الموت نهاية كل حي، لكن تبقى هناك رؤى من زوايا متعددة تنعتق منها معان للحياة في مقابل الموت، حيث يتحول الأخير تحولا دراماتيكيا ويصبح الحد الفاصل بينهما خيطا رفيعا، فقد يكون أحدهما سببا للآخر ومتمما له بشكل تسلسلي، أي أنه حياة ثم موت ثم حياة، هذا إن لم نتناول الموت كنهاية بيولوجية حتمية.
ولكن ما كل هذا الزخم حول اليقين بالموت والجزع والفزع منه! إذ ما هو في حقيقة الأمر إلا تتمة لدورة الوجود الطبيعي ورجوع إلى حالة الاستقرار.. وهي الحقيقة الخالدة في رأي الفلاسفة، أو كما قال الإمام علي – عليه السلام – "الدنيا دار ممر لا دار مقر، فاعبروها ولا تعمروها، ولكنكم تنقلون من دار إلى دار حتى يستقر بكم القرار".
إذن علينا ألا نخشى الموت كحدث فيزيائي ومقدمة لحياة أبدية ترجع فيها الروح إلى الخالق، والذي هو أرحم وألطف من الآدميين على بعضهم بعضا، لقد حان الأوان أن نتحدث عن الموت بوجوهه الأكثر عتمة، كموت الضمير وموت المثل والمبادئ، فلقد انتشرت رائحة الموت في كل مكان واختفت منظومة القيم بكل ثوابتها، وتفسخت أشلاء الضمائر، ليصبح كل شيء سهلا ميسورا، ولنتمكن من تسمية الأشياء بغير أسمائها، فلا مانع من تسمية الرشوة (هدية) والسرقة (حقوق) والفساد (امتيازات) ولا بأس أن يعم هذا الحال معظم الأجهزة الإدارية، وحتى دور الرعايا الاجتماعية ومراكز التأهيل، وما حدث في مركز تأهيل المدينة المنورة من تعنيف أدى إلى حالة وفاة الأسبوع الماضي أقرب مثال على ذلك، فهم ينظرون إلى المعاق كعنصر شاذ عن المجتمع، ويتم التعامل معه بمنتهى التعالي والفوقية، ويوضع في إطار بعيد لأنه مركب نقص في عيون الآخرين، أو كما ينظر له هؤلاء، يضعونه في آخر الصف كتصنيف متبع لديهم وأسلوب يعتاد عليه من ماتت ضمائرهم، حيث يستأنس القوي ويتراقص على أنين الضعيف، هي لحظة انعدام مفرط في أحاسيسه، فلا مجال لمقاومتها أو التنحي عنها فلقد دفن ضميره مع البنية التحتية السيئة بسبب الفساد والاختلاس وباتت قلوب الناس خائفة وجلة من أن تسقط عليهم الجدران بعد مرور الزمن.
إن ما يميز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، هو امتلاكه لضمير يفترض أن يكون راشدته ودالته ورقيبه الداخلي على الصعيد الأخلاقي والإنساني، وبموته يتحول الإنسان من مرتبته الإنسانية إلى مستوى حيوان بيولوجي له شكل إنسان، ولا شك أن المواقف التي تبرز الجانب الحي في النفس البشرية تثير الكثير من الاحترام عند البشر على مختلف أشكالهم وأجناسهم وتجعلهم يتوحدون في المشاعر والمواقف.
لقد كان الصراع بين الخير والشر من فلسفة الحياة الأولى، ونزوع الإنسان للقتل بهدف الاستمرار والبقاء والاستئثار ليس بالجديد، ولكن الجديد هو كيف للبشرية أن تقبل أن يتحول الإنسان إلى سلعة ووقود! بدلا من أن يكون قيمة ومعنى وهدفا، هذا هو التحدي الذي يواجه عالم اليوم.
التحدي أن يكون الإنسان صاحب مبدأ، يقدر قيمة العمل.. يزرع وينتظر الحصاد ويدرك دور الاستقرار الاقتصادي ومتطلبات مكانه الوظيفي، يسعى لفعل الصواب بإخلاص، ويراعي الله في موقعه المسؤول عن آلاف الأرواح والآلام التي تتعرض لها.
إذن علينا أن نوحد الصوت حتى تتحقق العدالة (نريد إحياء الضمير) ولكن تبقى جدلية إن لم نستطع إحياء الضمير هل هذا يعني أنه رحل إلى اللاضمير كمستقر نهائي ليس منه عودة؟ أم تظنون أن هناك بعضا من أمل ليبدأ معنا حياة جديدة؟