لم يخطئ الناقد المجري جورج لوكاش حين وصف الرواية بأنها «ابنة المدينة»، فالرواية الجيدة إما أن تدور أحداثها في أرجاء المدينة أو في أمكنة افتراضية ترمز للمدينة. وصف لوكاش للرواية قد يتفق نسبيا مع قولنا إن الرواية ابنة عصرها ولا يمكن لها أن تكون تاريخية. لأكن أكثر تحديدا وأقل إن الرواية ابنة جيلها، فالكاتب الجيد حين يشرع في كتابة روايته وبناء عالمه وشخصياته فإنه يستحضر ذاكرته الشخصية، بمعنى أنه يؤسس عالمه الروائي من خلال عالمه الحقيقي المعاش. ويبدأ بتصدير الشخصيات والسلوكيات والأماكن من عالم الحقيقة إلى عالم الخيال. وبما أن الرواية نشأت مع نشوء المدن الصناعية وغالب الروائيين عاشوا وسط أرجاء المدن الكبرى فوصف الرواية بأنها «ابنة المدينة» وصف دقيق للغاية.

الرواية هي أنسب جنس أدبي لنقل إحساس المدينة الحديثة ومن يسكنها، ومعظم الروايات الخالدة عبر التاريخ كانت انعكاسا للمدينة والعلاقات الإنسانية فيها. فكيف بكاتب يعيش في بيروت أو القاهرة ويكتب رواية تدور أحداثها في عصر المماليك والتتار ويصنع شخصيات رواية تنتمي لروما القديمة؟ الكاتب هنا سيضطر لكتابة أحداث تلفيقية، يرقع الحوارات ويمزج الحاضر بالماضي في هجين اجتماعي ينتج عنه بلا أدنى شك رواية ملفقة لا تعكس حقيقة عصر الفراعنة ولا عصر روما وقرطاجة.

دائما ما يرتبط إبداع الروائي بمعرفته المتعمقة بالمدينة ونفاذه إلى أسرار الشارع وحديثه بلغة خاصة بالمدينة، فكل ما يكتبه نتيجة للذاكرة الحسية كما رأتها العين وسمعتها الأذن ونقلتها الجوارح، فالكاتب الجيد ينقل علاقات إنسانية مبعثرة من حياته الخاصة، والكاتب نفسه موجود بشكل أو بآخر في عالم الرواية وأبطال روايته هم مزيج من شخصيات حقيقية عاش معها واقعا وشاهدها بأم عينه. ومن هنا يمكن القول إن الرواية ابنة المدينة وكذلك هي ابنة جيلها، فالروائي الجيد يكتب عن جيله وعن أبناء جيله لأنه يعرفهم تمام المعرفة، فهو راصد جيد لديناميكية المجتمع ويعرف ما يدور داخله معرفة نفسية معمقة، ومعرفته العميقة بالمجتمع اكتسبها من تجربته الحسية لا اعتمادا على المراجع التاريخية المعتمدة، فالروائي ابن المدينة البار الذي يستطيع نقل هموم أهلها وتطلعاتهم.


فلكل جيل سماته الفريدة التي لا يمكن لها أن تكون مشتركة مع الأجيال السابقة أو اللاحقة، فالروائي صاحب الرواية التاريخية لا يراعي قضية في غاية الأهمية وهي «الفجوة بين الأجيال» أو «مشكلة الأجيال» وأهم مظاهرها سوء الفهم والتوتر في العلاقات بين الأفراد المنتمين لأجيال مختلفة الذي ينتج عنه تأثر علاقات العمل والصداقة والحب والأبوة باختلاف الأجيال. فالرجل الذي عاش جيلا معينا لا يستطيع فهم سلوك جيل أبنائه وأحفاده، والروائي الجيد لا يكتب عن جيل قديم لا يفهمه فكل جيل يتأثر بسياقه التاريخي والاجتماعي الذي يسبب اختلاف وجهات النظر وأساليب التعامل، فكيف يمكن للروائي أن يكون صادقا وأمينا في كتابته عن جيل عاصر بناء الأهرامات أو جيل آخر عاصر سقوط الأندلس والحروب الصليبية؟

الروائية التاريخية لا تراعي قضية اختلاف الأجيال والفجوة الناتجة عن تعاقب الأجيال الذي ينتج عنه اختلاف في المواقف والقيم وردود الأفعال مما يجعل نمط حياة الجيل القديم غير مفهوم للجيل الجديد والعكس، فالجيل القديم لا يستطيع محاكاة الجيل الجديد في طريقة الملبس وأسلوب الأكل، ونوعية الهويات ما ينتج عنه صراع يعرف بصراع الأجيال وهو صراع طبيعي نتيجته سوء الفهم. وهنا نوجه سؤالنا الطبيعي لكاتب الروايات التاريخية: كيف استطعت بناء عالم روائي متكامل واستوعبت حياة وسلوك الجيل الذي عاصر حروب القائد المغولي جنكيز خان؟