ومنذ تعيينه أميرا للمنطقة يبذل الأمير جلوي جهودا مقدّرة لإصلاح ذات البين وتقوية النسيج الاجتماعي، واتسمت مساعيه في هذا الصدد بالطابع الودي، حيث يميل إلى الحديث عن الإصلاح ويحث الناس على اتباع هدي الإسلام في العفو، وتعاليم النبي عليه أفضل الصلاة والسلام في التسامح والصفح، لذلك وجد تجاوبا منقطع النظير إذ يبادر الجميع في حضرته إلى إعلان العفو والتنازل طوعًا، طلبًا للأجر وابتغاءً لوجه الله تعالى.
من أبرز ما أنجزه سمو الأمير في هذا الصدد التوقيع على (وثيقة مشايخ نجران لضوابط العفو والإصلاح) التي هدفت إلى وضع حد نهائي للمغالاة في قيمة الديات والمتاجرة بالدماء، حيث وضعت الوثيقة حدا أعلى لمبالغ الديات والتعويضات في حالات القتل أو إلحاق الأذى، وذلك لمحاربة المتاجرة بالديات التي تضر بالمجتمع وتهدّد الأمن وتزرع البغضاء.
ومثَّلت تلك الوثيقة التاريخية مثالا لبقية مناطق المملكة للقضاء على ظاهرة المتاجرة بالديات، حيث كان العديد من الوسطاء يتدخلون بين المتنازعين بذريعة الإصلاح وإيجاد الحلول الودية، لكنهم يتسببون في زيادة معاناة الأسر والعائلات التي يتورط أبناؤها في قضايا الدماء بما يرهقهم ويضطرهم إلى بيع أملاكهم ومنازلهم، للحصول على الأموال المطلوبة التي تصل إلى عشرات الملايين من الريالات.
ولعل من أبرز ما يبعث على التقدير أن مشايخ القبائل أبدوا تفاعلًا صادقًا وحماسة لافتة تجاه الوثيقة، فسارعوا إلى توقيعها طواعيةً وبكامل إرادتهم، دون أي ضغوط أو إلزام فقد جاءت الوثيقة متكاملة وشاملة ووافية، إضافة إلى توافقها التام مع الأنظمة والقوانين وعدم تعارضها مع أي نص نظامي، حيث أكدت بوضوح أن الحكم هو ما يصدر عن المحاكم فقط، أما ما يتم الاتفاق عليه عند العفو فهو محضر صلح، لذلك يمكن القول إن الوثيقة تمثّل التزاما أخلاقيا، أوجدته العادات والتقاليد والأعراف التي تحكم المجتمع، والتي تعد من أبرز وأول عناصر استدامته طالما كانت متوافقة مع الشرع والقانون.
وتحتوي الوثيقة كذلك على العديد من الجوانب الإيجابية الأخرى، مثل اشتراط تسليم القاتل نفسه للسلطات المختصة قبل البدء في أي مساعٍ صلح، وذلك لضمان الحقوق وعدم الإفلات من العقاب، إضافة إلى حماية القاتل نفسه من أولياء الدم كي لا يحاولوا أخذ الحق منه بالقوة.
كما أن إجراءات الصلح لا تبدأ إلا بعد صدور الحكم الشرعي واكتسابه القطعية، وذلك إرساء لمبدأ الحاكمية وسيادة القانون. وحتى لا يستخف أحد بحقوق الآخرين ما دام هناك من يساعده في توفير مبالغ الديات فقد نصّت الوثيقة على أن يتحمّل الجاني القسم الأكبر من المال اللازم للحصول على العفو ومن ثم يستوفي المجتمع البقية.
ومن جهود الأمير جلوي بن عبدالعزيز المباركة في ترسيخ نهج الإصلاح وتعزيز ثقافة التسامح، ما قام به مؤخرًا من إصلاح ذات البين بين أسرتين عريقتين من بيوت المشيخة في المنطقة، حيث اجتمع بكبار العائلتين، وتحدّث إليهم بروح الأبوة والحكمة عن فضل العفو وعلوّ شأن التسامح، مما أثمر عن طيّ صفحة خلاف امتد لعقود، وأعاد إلى المجتمع مشهدًا نقيًا من صور التآلف والوئام. وهو ما لقي ترحيبًا واسعًا وتقديرًا كبيرًا من أفراد المجتمع، الذين استبشروا بهذه الخطوة وعبّروا عن سعادتهم بها.
هذه الجهود المتواصلة والرغبة الأكيدة في الإصلاح ونزع الشحناء وجمع الصفوف تنم عن عقلية ناضجة ونظرة ثاقبة وإدراك كبير لأهمية جمع القلوب والتوفيق بين الناس، وهو خلق إسلامي أصيل حث عليه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) ويقول في موضع آخر (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)، إضافة إلى عدد من الأحاديث النبوية الشريفة.
ولأن مجتمع نجران عرف منذ قديم الزمان بأنه مجتمع مترابط ويشكل مثالا للتسامح والتعايش، فقد تجاوبت كل قطاعاته مع جهود الأمير جلوي، وقابلوها بكل احترام وتقدير، لأنهم تربوا على مبادئ الدين الإسلامي الحنيف، وتشبعوا بالقيم العربية الأصيلة التي تحمل مكارم الأخلاق مثل الشهامة والمروءة ومساعدة الآخرين.
وعندما يقوم الأمير وفقه الله بهذه الجهود الطيبة، ويسعى للتقريب بين المواطنين فإنه ينطلق من توجيهات القيادة الكريمة، وينفذ نصائح وتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - الذي اشتهر خلال السنوات الطويلة الماضية بأنه أحد أبرز الساعين بالخير بين الناس، وكان مجلسه العامر في إمارة الرياض خير دليل على ذلك، حيث يطلبه طالبو الوساطة فيلبي طلبهم ويسعى إلى إصلاح ذات البين.
وهكذا هي المملكة العربية السعودية، تسعى قيادتها الحكيمة دوما إلى إعلاء قيم التسامح، وتدعو إلى الصفح والعفو عند المقدرة، وتحرص على صيانة الإرث الكبير من مكارم الأخلاق التي قامت عليها الدولة المباركة من تقاليد راسخة ومبادئ نبيلة تأسس عليها مجتمعنا الكريم، وظل محافظا عليها طيلة السنين.