جحا لم يكن أحمق؛ لأنه يعرف جيدًا أن المفتاح في الداخل، ولكنه يريد أن يقول شيئًا عن الحقيقة، وهو أن إمكان الرؤية أهم من صحة الموقع، كذلك فتغنشتاين لا يلوم صديقه على سكنه، بل على صيغته اللغوية المضحكة -كقصص جحا- صيغة تجمع بين الماضي والآن في لحظة واحدة، فهو يرى أن اللغة تخلق تمثلات مزيفة، تجعلنا نقول أشياء نحسب أننا نعرفها، لكنها في الواقع تمثلنا أكثر مما نمثلها؛ فعندما قال صديقه: «كنت أعيش هنا» انقسم الزمان والمكان فجأة، جملة واحدة جعلت (الآن) و(هنا) موضع شك. وكما انقسم الوعي عند جحا بين موضع المفتاح وموضع النور انقسم الوعي عند فتغنشتاين بين موضع الجملة وموضع الحضور. وكما أن جحا يضحكنا بجملة تبدو عبثية، ثم نكتشف أنها تحفر في منطق الإدراك، فإن فتغنشتاين يضحكنا بجملة تبدو مألوفة، ثم نكتشف أنها تحوي عبثًا في منطق اللغة، فمن يبحث في الضوء لأن «النور هنا» كما هو جحا، لا يختلف سلوكه عمن يصمت في مجلس تتكلم فيه الألسنة؛ لأنه لم يفهم شيئًا مما يقال في المجلس، كما هو فتغنشتاين؛ لأن المفتاح عند جحا هو الضالة الحقيقية، لكنه يبحث عنه في المكان الذي يستطيع أن يرى فيه، وأما فتغنشتاين كان يبحث عن مفتاح الفهم المشترك مع جلسائه، لكنه لم يجده في الكلام المنثور حوله، فآثر الصمت، لأن الكلمات/المفاتيح لم تعد تفتح؛ لهذا لا فرق بين من ينحني على الأرض بحثًا عن معدن صغير تحت شعاع مصباح في المكان الخطأ، وبين من ينظر في وجوه المتكلمين صامتًا بحثًا عن جملة واحدة مفهومة في المكان الخطأ.
التفاتة:
ربما كان جحا فيلسوفًا يتخفى في جلد الأحمق، وربما كان فتغنشتاين أحمق يتخفى في جلد الفيلسوف، لكن اللافت للنظر أن كليهما لا يبحث عن مفتاح الحقيقة في الباب، بل في اليد التي تحاول فتحه.