الدوبامين ليس مجرد «هرمون سعادة»، كما يُشاع، بل ناقل عصبي مسؤول عن نظام التحفيز والمكافأة في الدماغ. هو ما يدفعنا للشعور بالرغبة، بالإنجاز، بالاندفاع نحو تحقيق الأهداف. باختصار، هو العامل الكيميائي الذي يغذي الشغف من الداخل. في السابق، كنا نعيش تجارب متدرجة: ننتظر، نعمل، ثم نكافأ. أما اليوم فنعيش في عالم رقمي يُفاجئ الدماغ بمكافآت سريعة: إشعارات، إعجابات، مقاطع قصيرة، أخبار عاجلة. كل واحدة منها تُحدث قفزة صغيرة في مستويات الدوبامين، لكن دون عمق أو استمرارية. ومع الوقت، يعتاد الدماغ على هذا النمط السريع من التحفيز، ويبدأ بفقدان استجابته للأشياء التي تتطلب صبرًا أو جهدًا. قراءة كتاب، جلسة صمت، لقاء مع صديق، مشروع شخصي.. كلها تصبح باهتة مقارنة بما يقدّمه الهاتف في ثوانٍ معدودة. وهكذا يخفت الشغف.
هذا ما يسميه علماء الأعصاب بـ«خلل نظام المكافأة»، وهي حالة لا تجعلنا مكتئبين، بل تجعلنا «غير مبالين»، «محايدين»، بلا رغبة حقيقية. لا لأن الحياة لم تعد جميلة، بل لأن أدمغتنا لم تعد تفرق بين المتعة الحقيقية والمؤقتة. لكن الجميل أن الدماغ، بقدر ما يتأثر، يمكنه أن يتعافى. الأمر لا يتطلب معجزة، بل عودة للبساطة. تقليل المشتتات، إبطاء الإيقاع، تخصيص وقت لأنشطة تمنح متعة داخلية بطيئة: التأمل، الرياضة، الكتابة، الرسم، أو حتى لحظات من الصمت. فالشغف لا يُستعاد بضغطة زر، بل بصبر ووعي.
الشغف لم يمت، فقط ابتعد قليلًا، ينتظر منا أن ننتبه. لكن كيف ننتبه؟ كيف نُعيد ربط أنفسنا بما يُشعلنا دون أن نقع في فخ الكمالية؟ أولى الخطوات هي الملاحظة. أن نراقب يومنا بوعي: كم مرة نلجأ للهاتف دون سبب؟ كم نشاط نفعله بدافع الهروب وليس بدافع الرغبة؟ هذه المراقبة وحدها تفتح باب التغيير. بعدها، يأتي دور القرارات الصغيرة. لا أحد يطلب منك أن تترك هاتفك وتنتقل إلى الجبال. لكن ربما يمكنك أن تبدأ بعادة صباحية بلا شاشة، أو أن تستبدل نصف ساعة من التصفح بقراءة شيء تحبه. أن تعيد التواصل مع صديق قديم، أو تعيد إحياء هواية دفنتها تحت ضغط الوقت.
المهم هنا هو أن نكون رحماء مع أنفسنا. فاستعادة الشغف ليست سباقًا، بل مسار من التجريب والملاحظة والعودة المستمرة إلى الذات. لا بأس إن لم تشعر بالحماس منذ اليوم الأول، ولا بأس إن كانت العودة بطيئة. الأهم أن تكون هناك نية واضحة: أن تستعيد نفسك من تحت ضجيج العالم.
ويجدر بنا أن نتحدث أيضًا عن الجانب العاطفي. أحيانًا، غياب الشغف ليس فقط نتيجة لتحفيز مفرط، بل لأنه لم يعد هناك معنى حقيقي نرتبط به. لذلك، فمن المفيد أن يسأل الإنسان نفسه: ما الذي يجعلني أستيقظ كل صباح؟ ما الذي أحبه حتى لو لم يكن «مربحًا» أو «ناجحًا» بالمعايير العامة؟ ما الذي يُشعرني بالحياة؟ حين نعيد طرح هذه الأسئلة، نبدأ باستعادة الشغف من جذوره. لا فقط كإحساس مؤقت، بل كقيمة نعيش بها. الشغف لا يعني الحماس المستمر، بل الارتباط الحقيقي بما نفعله، حتى حين يكون الطريق صعبًا.