فالمواقف، لا الأقوال، هي ما يكشف معادن الرجال. حين تأتي الشدة، أو تغمر النعمة، أو تقع الجفوة، ينكشف الصادق من المدعي، والأصيل من المزيف.
كثيرون يظنون أن المناصب مجرد نعمة، لكنها في الحقيقة اختبار حقيقي للطبع والمعدن، والكرسي قد يكشف الإنسان، ويختبر وفاءه واتزانه. ولعل الواقع يؤكد أن الكفو نادر، نعم نادر!
فالأصيل يظل أصيلًا مهمًا علا المنصب، أما غيره، فيغريه الكرسي، ويغيّره بريقه، وينقله إلى عالم من الوهم والغرور، ونرى بعضهم - للأسف - حين يتقلد منصبًا، ينفصل عن محيطه القديم، وتُغريه جوقة من المطبلين والمتزلفين، فيحلق داخل فقاعة تحجب عنه حقيقة نفسه والناس. ويعيش في برج عاجي، بعيدًا عن الواقع، حتى إذا انتهى دوره أو غادر منصبه، سقط سقوطًا مدويًا، وتفرق عنه أولئك الذين كانوا يوهمونه بالولاء، ليهرولوا نحو الكرسي الجديد، ويبقى وحيدًا خاسرًا لأصدقائه الحقيقيين الذين كانوا بجانبه قبل الوجاهة والسلطة.
سأضرب ثلاثة أمثلة مشرقة عن شخصيات أجمع الناس وأصدقاؤهم على الثناء على وفائهم وثباتهم، ومن باب الإفصاح لا تربطني بهم أي مصلحة شخصية:
أولهم: «الدكتور ماجد القصبي» أسميه «الراقي» كما عنونت في مقالات سابقة، لما يتمتع به من رقي حقيقي في التعامل مع جميع من حوله، بغض النظر عن مناصبهم أو مكانتهم خصوصًا مرؤوسيه.
رجل مشغول حد الغمر في عشرات اللجان والملفات المهمة والوزارة ومع ذلك يحتفظ بتواصله ورقيه وتواضعه مع أصدقائه وأهله.
هذا الطبع الراقي لا يمكن أن يصطنع ولا يُتظاهر به طويلًا؛ بل هو في نظري انعكاس لتربية أصيلة وطيبة منذ الصغر.
ثانيهم: «الدكتور إبراهيم العساف»، رجل تولى وزارات كبرى، بينها المالية والخارجية، وقد كنت أنتقد تحفظه المالي سابقًا بمقالاتي، خاصةً حين كنت أطالب منذ سنوات طويلة بإنشاء صندوق سيادي يستثمر في الشركات العالمية ويستغل الفرص العالمية، ويجذب الشركات ونقل التقنية للبلد بدل التركيز على السندات الحكومية منخفضة العائد. ومع ذلك، الإنصاف يقتضي أن نقر بأنه رجل أصيل بمعنى الكلمة، ظل وفيًا لمن حوله، لم يغيره المنصب، ولم تعتريه «شوفة النفس».
وربما لو التمسنا له عذرًا، لوجدنا أن تلك المرحلة كانت مليئة بالتحديات، وقلة الشفافية، وخوفه على المال العام من تدخلات بعض الشخصيات النافذة، ما دفعه إلى تفضيل السندات الحكومية الآمنة.
ثالثهم: «بدر العساكر» أحد أبرز وجوه الجيل الجديد من المسؤولين.، شهادات الناس فيه متواترة، تذكر تواضعه وأدبه وبشاشته الدائمة وذوقه الرفيع، لم تغيره المناصب، ولم تغره السلطة. كتبنا قبل فترة أن بعض مسؤولي الجيل الجديد يشتكي الناس منهم بشيء من شوفة النفس، لكن بدر العساكر يمكن أن يكون قدوة ومثالًا مرجعيًا لأخلاق ورفعة وتعامل الجيل الجديد من المسؤولين.
في وقت يشكو فيه البعض من تصلب الرأي لدى بعض مسؤولي الجيل الجديد، نجد أن بدر العساكر يتميز بالإنصات وتقبل الآراء والانفتاح الفكري. بل أثبت أن حسن التربية والنشأة الكريمة أقوى من أي بريق زائل.
وليس غريبًا أن يكون على اتصال وثيق مع سمو ولي العهد، الذي يُعرف بدقته في اختيار الرجال الذين حوله والذين ينقلون له الحقائق كما هي، دون تجميل أو تحريف.
وللتاريخ، وللتوضيح، أذكر أن حديثي عن هؤلاء الثلاثة (المعنيين هنا) لا تحكمه أي علاقة مباشرة، بل إنهم لا يعلمون أصلًا عن كتابة هذا المقال، وإنما أتناول سيرتهم لتكون قدوة لجيل المسؤولين الحاليين؛ إذ رغم انشغالاتهم الجسيمة ومسؤولياتهم العديدة، ظلوا على تواضعهم، ولم تغيّرهم المناصب، وبقوا متواصلين مع محيطهم، أوفياء لأصدقائهم ومبادئهم.
ومن باب «التمس لأخيك سبعين عذرًا»، قد يبرر البعض تغيّر بعض المسؤولين بانشغالهم وضغط مهامهم وساعات العمل الطويلة، إلا أن الانشغال ليس عذرًا مقنعًا؛ فالجميع مشغول، ومع ذلك يجد الكثيرون وقتًا للتواصل والحفاظ على روابطهم الإنسانية.
في الحقيقة، نحن وغيرنا لا نطلب من هؤلاء المسؤولين شيئًا ؛ بل نشجعهم ونؤمن أن خدمة الناس شرف للمسؤول، بوصفه موظفًا عامًا واجبه الأساسي تلبية احتياجات المجتمعات ويخصص جل وقته للخدمة العامة، لكن ما دخل التواضع في شيء إلا زانه!
وللأسف حينما نسمع أن أحدهم تغيّر حتى على أقرب المقربين إليه، يحزننا أن نفقد شخصًا كان يُظن فيه الخير. وأحيانًا، في مناسبات عامة وسنوية محدودة، قد ترغب بالتواصل من باب الود لا أكثر، فتُفاجأ بأن التواصل قد انقطع، وعند السؤال، تجد أن المقربين لهم أنفسهم يقولون: «فلان لم يعد كما عهدناه».
فإذا كان هذا حال صديق بعيد عن مجال المسؤول ولا يحمل حاجة أو طلبًا، فقط يسعى للسلام والمودة ولا يجد من يرد عليه، فكيف يكون الحال بمن هو داخل أو قريب من المجال وقد يُساء الظن بتواصله؟
مع العهد الجديد والشفافية التي تعيشها البلاد، ندرك جميعًا أن الواسطات والتفضيلات أصبحت شبه معدومة، ونحن متفهمون لهذا الواقع تمامًا، ولا أحد يطلب شيئًا، ولكن ما لا يُغتفر هو أن يصاب المسؤول بشيء من الغرور أو الاستعلاء على أصدقائه أو معارفه قبل المنصب!.
الناس لا تطلب أكثر من وجه بشوش وكلمة طيبة؛ فكما يقول المثل: «لاقيني ولا تغديني».
أيضًا ظاهرة أخرى غير محببة، وهذا يدعو للحزن نلاحظ أن بعض المسؤولين، خصوصًا من بعض من الجيل الجديد، يظهرون بوجهين: وجه أمام الإعلام وآخر مختلف تمامًا أمام الناس!
ففي بعض المؤتمرات ترى بعض المسؤولين منهم تواضعًا مصطنعًا، بينما في التعامل اليومي مع الآخرين يتجردون من هذا التواضع.
إننا نقيم جوهر الأفراد بناءً على تعاملهم مع مرؤوسيهم وعامة الناس لا بناءً على سلوكهم مع رؤسائهم ومن هم أعلى منهم منصبًا.
الوصولية، وترك الأصدقاء والمعارف بعد الوصول إلى المناصب، ليست من الصفات المحببة في أي مسؤول؛ ولا ينظر لها بإعجاب من أي طبقة كانت.
لا أحد يحترم المتسلقين، ولا يتم تصنيفهم على أنهم رافضون عمليين أو محترفين، بل يُصنفون كأشخاص وصوليين، والوصولي بطبعه لا يكون يومًا قائدًا، ولا قدوة، ولا رجل دولة، ببساطة لأنه يفتقر إلى الأصالة.
يقال دائمًا: «ابحث عن بطن جاعت بعد غنى، ولا تبحث عن بطن شبعت بعد فقر» فالخُلق إما أصيل وإما دخيل، ففي الأولى أصيل وفي الثانية دخيل، ومن اعتاد الغنى ثم افتقر، تختلف تصرفاته عمن اغتنى بعد فقر؛ فالخِصال تظهر عند المنعطفات.
النسخة الأخيرة التي نراها من الأشخاص عند تسلمهم المناصب ليست نسخة جديدة؛ بل هي حقيقتهم الأصلية التي كانت مستترة تحت قناعٍ من التظاهر، والأصدقاء بحسن نيتنهم كانوا يمنحون الفرصة، حتى أسفرت الأيام عن وجوههم الحقيقية.
والبعض يردد دائمًا: «للأسف، لم نعرف حقيقتهم إلا في النهاية. لا ليس ذلك دقيقًا، بل كانوا كما هم منذ البداية، لكنهم ارتدوا رداءً زائفًا».
في النهاية، أتذكر هنا كلمة جميلة للأمير عبدالعزيز بن سلمان حين قال:
«أحزن عندما أجد أي وزير يمثل المملكة يعتقد أنه الوزير الملهم والقائد المحنك، وتتضخم ذاته، بينما يجب على كل واحد منا أن يتذكر دومًا أنه يمثل الدولة، ولولا هذا التمثيل لما كانت له أي قيمة».