في عالم اللغة، لا تُحسم القضايا بمجرد الالتزام بعلامات الترقيم أو قواعد الإملاء الظاهرة، بل تزنها معايير أعمق، حيث يُحتكم إلى السماع، الذي هو روح العربية وأصلها الأول، فاللغة لم تُبنَ على الورق ابتداءً، بل تشكّلت في الأفواه، ونُقلت مشافهةً قبل أن تُقيد بالحروف؛ ولهذا، فإن السماع من العرب الفصحاء أقوى مرجع وأصدق دليل، لا يزاحمه تقعيد نظري أو اجتهاد صوتي مهمًا بدا منطقيًّا.
وكلمة «الهيئة» شاهد بارز على صراع خفي بين التراث والحداثة، بين الرسم الذي استقر في أفواه العرب، والرسم الذي تدعو إليه بعض مناهج الإملاء الحديثة.
إذا رجعنا إلى المعاجم الكبرى التي نهلت من معين الفطرة اللغوية زمن الصفاء، وجدنا أن الكلمة لم تدوّن إلا على صورة واحدة: «هيئة»، مرسومة على نبرة، دون أدنى إشارة إلى كتابة بديلة، ففي «لسان العرب» لابن منظور، و«الصحاح» للجوهري، و«تاج العروس» للزبيدي، و«تهذيب اللغة» للأزهري، جاء الرسم ثابتًا، متوافقًا مع السماع العربي، لا تابعًا لقياس أو اجتهاد نظري.
ولم تعرف المدونات التراثية في النحو أو الصرف أو المعاجم أي رواية كتبت فيها الكلمة على هيئة «هيأة»، إذ كان معيار الكتابة هو ما نُقل عن العرب، لا ما اقتضته القواعد النظرية لاحقًا، وكانت المدارس النحوية القديمة، البصرية والكوفيّة والبغداديّة، أقرب إلى الذوق والضبط الشفوي منها إلى التقعيد الإملائي، إذ لم يكن علم الإملاء يومئذٍ علمًا مستقلًّا، بل تابعًا للنحو ومتفرعًا عنه.
غير أن العصر الحديث شهد نشوء تيار لغوي دعا إلى مراجعة رسم بعض الكلمات، ومنها كلمة «هيئة»، معتمدًا على قاعدة الهمزة المتوسطة، التي تُعنى بحركة الهمزة والحرف السابق لها، فقال بعضهم إن الكلمة على وزن «فَعْلَة» «هيْئَة»، وإن الهمزة المفتوحة إذا وقعت بعد ياء ساكنة تُرسم على ألف؛ لأن الفتحة أقوى من السكون، فتصبح الكتابة «هيأة».
ولم يكن هذا الاجتهاد نابعًا من رواية مسموعة أو أثر لغوي، بل هو ثمرة تقعيد صوتي، تبنّاه بعض اللغويين المعاصرين وموجّهي التعلي، رغبةً في تيسير الإملاء، وجعل الكتابة أكثر انسجامًا مع القواعد الصوتية، وقد تسرب هذا التصور إلى بعض المناهج الدراسية، ومنها منهج «لغتي الجميلة» في المملكة العربية السعودية، الذي صدرت طبعته المحدثة عام 1434هـ (2013م)، معتمدًا رسم «هيأة».
بيد أن هذا التغيير وُوجه بنقد علمي واسع من اللغويين والمعلمين، الذين رأوا أن الكلمة ذات أصل سماعي ثابت لا يجوز إخضاعه لمنطق القياس الصوتي، فدفعهم ذلك إلى المطالبة بالعودة إلى الرسم التراثي المسموع، استجابت وزارة التعليم لهذا النقد، وأعادت الكلمة إلى رسمها الصحيح «هيئة» في الطبعة الصادرة عام 1442هـ (2020م)، ما عدّه كثيرون انتصارًا للأصل السامي، واستعادةً لروح اللغة كما نطقتها العرب.
إن تحول مناهج التعليم من «هيأة» إلى «هيئة» لم يكن مجرد تعديل هجائي عابر، بل كان عودةً واعية إلى الجذور، وانتصارًا لثقافة السماع على نزعة التقعيد، وتأكيدًا على أن الكلمة في العربية ليست مجرد بناء صوتي، بل شاهدٌ على الوجدان الجمعي لأمةٍ تصوغ كلامها كما تصوغ وجدانها.
وعند استعراض آراء المجامع اللغوية العربية نجد أنها قد أجمعت كلها -في القاهرة، والعراق، ودمشق، والأردن، والسودان، ومكة، والجزائر، وليبيا، والمغرب، اليمن- على أن الكتابة الصحيحة المعتمدة للكلمة هي «هيئة» بهمزة على نبرة، مراعيةً السماع الأصيل، وقد سُجّل استثناء محدود تمثل في بعض القبول لكتابة «هيأة» في النصوص التراثية والشعرية، فقط في اليمن والسودان.
بناءً عليه، صار لزامًا على جميع الكتابات الرسمية والأكاديمية المعاصرة في الدول العربية أن تعتمد الرسم «هيئة»، وفاءً للمنقول عن العرب، والتزامًا بالسياق اللغوي الرصين.
وهكذا فإن كلمة «الهيئة» لم تعد مجرد لفظ عابر، بل صارت ساحة صغيرة يتجاذبها القديم والحديث، المنقول والمقيس، السماع والاجتهاد، بقاؤها بين رسمين يذكّرنا بأن اللغة الحيّة لا تخلو من خلاف، وأن الهمزة الصغيرة قد تكشف عن جذور صراع عميق بين الوفاء للأصل والجرأة على التعديل،
فاللغة ليست آلةً جامدة تُدار بقواعد ميكانيكية صمّاء، بل هي كائن نابض بالحياة، يُروى من أفواه العرب، ويحيا بروحهم قبل أن يُسطّر بأقلامهم.