التوتر ـ الضغط النفسي ـ لا يولد فجأة، ولا ينشأ من فراغ؛ بل يتشكل شيئًا فشيئًا، بسبب تراكمات نمط حياة مختل، واستسلام خفي لضغوطات لا تنتهي.

في عالم يلهث فيه الناس وراء اللحظة، تحوّل التوتر من حالة طارئة إلى مشهد يومي، ومن عرض سريع إلى نمط تفكير وأسلوب معيشة، ولم يعد مجرد شعور عابر، بل أصبح علامة على أن الإنسان قد ابتعد قليلا أو كثيرا عن ذاته، وربما فقد بوصلته بين صخب التوقعات وضجيج المتطلبات؛ والذي لا يمكن الجدال حوله، هو أنه كلما اتسعت المسافة بين الإنسان وحقيقته، اشتد التوتر عليه، وصار يتلقى إشارات استغاثة، يعجز عن استقبالها إذا غرق في الركض.

التوتر أنواع، منه «الصحي»، الذي يحفز الطاقات حين تستدعيها المواقف الجادة، ويمكن للإنسان أن يجعله توترًا عابرًا لو قام بضبطه بميزان الوعي واليقظة؛ وهناك التوتر «المرضي»، الذي يسرق العمر من بين يدي صاحبه، ويشوّه إدراكه للأولويات، ويضيعه بين تفاصيل لا تستحق، ولا ينجو إلا من يرى التحديات في حجمها الحقيقي، ويملك رؤية متزنة، ويقينا بأن الضغوط مهما تعاظمت، تبقى محكومة بحدود، والاستغراق فيها يصنع منها وحوشًا داخل نفسه.


مفاتيح الاتزان لكل إنسان لم تكن يومًا في يد الخارج، والعودة إلى الذات ضرورة لا غنى عنها؛ حيث ينبغي على المهتم بحياته أن يبني علاقته بنفسه بالتوكل الصادق لا النظري، وينمي التعود على ذلك، ويتحرر من ضغط المثالية الموهومة، ويرتب أولوياته على ضوء القيم لا على وقع الضجيج، ويخفف من التعلق بما لا يملك تغييره، وينظم أوقات راحته وتأمله؛ فليس أقوى في دفع التوتر من قلبٍ فوض أمره إلى الله، سبحانه وتعالى، وعقلٍ أحسن إدارة يومه، ونفسٍ آمنت أن كل شيء يمضي في ميقاته الذي لا يعجله قلق، ولا يؤخره وجل.

حجم التحديات الدنيوية ليس هو بحد ذاته ما يستنزف روح كل فرد منا، بل السبب يعود إلى الطريقة التي نستقبل بها هذه التحديات؛ فمن اعتاد النظر للأمور بعدسات مضخّمة، أرهق نفسه قبل أن يبلغ غايته، ومن أدمن القلق، سلب من نفسه راحة لم يكن فقدها إلا بسبب نظرته هو، وليس له إلا أن يسير وفي قلبه سكينة أعلى من المصاعب، وثقة أعظم من العراقيل، وإدراك بأن الذي وهبه ربه العقل ليفكر، وهبه القلب ليطمئن، وعليه أن يحمل في داخله سكونًا، يزيل به سلطة الضغوطات عن روحه.

اليوم، لم يعد «التوتر» وحده طاغيا، بل صار معه «الاكتئاب»، و«عدم التركيز»، و«صعوبة اتخاذ القرارات»، و«الشعور بالإرهاق»، و«القلق المستمر» وما شابهها؛ وكأنها أصنام عصرية تعبد داخل عناوين مختلفة، وغابت عن كثيرين حقيقة أن الطمأنينة ترتبط بسلامة الرؤية وصدق التوجه، والمشاركات الأسرية والمجتمعية، والقراءة والاطلاع، ومزاولة النشاط البدني، والمحافظة على نوم هادئ، والتغذية الجيدة، والمرونة، وتغيير المواقف المسببة للإزعاج، حتى لو أدى ذلك إلى التخلي عن بعض المسؤوليات، أو التنازل عن بعض المعايير، ولا مانع من طلب المساعدة من المهتمين والعارفين بخدمات واستشارات الصحة النفسية، واضطراباتها المختلفة.

أختم مقالي بأن التوتر اختيار كما أن الطمأنينة اختيار؛ والعاقل لا يجعل الأيام تسوقه كما تشاء، بل يسير في دروبها بثبات من يعرف أن للروح حقوقًا، وللطمأنينة ثمنا يناله المتوكلون، ولا يناله المترددون، ومن يدرك أن السعادة ليست في كثرة ما نملك من فرص، بل في حجم ما نملكه من اطمئنان وثقة بأن «خالقنا» أولى بنا مِنَّا.