اختتمت في العاصمة الرياض أعمال النسخة السابعة من المؤتمر الدولي للسلامة والصحة المهنية، الذي انعقد تحت شعار «مستقبل السلامة والصحة المهنية»، بمشاركة نخبة من الخبراء والمختصين والجهات ذات العلاقة من داخل المملكة وخارجها. وقد شكّل المؤتمر فرصة نوعية لاستعراض أبرز التوجهات الحديثة في مجالات الاستدامة، والابتكار التقني، واقتصادات السلامة، والتحديات المتغيرة التي تواجه بيئات العمل، إلى جانب سلوكيات الأفراد وثقافة السلامة، بما يعكس التزام المملكة العربية السعودية بتعزيز بيئة عمل قائمة على معايير عالية من الوقاية، والمسؤولية، والامتثال للتشريعات الدولية، وعلى اعتبار أن بيئة العمل الآمنة تعد حقًا إنسانيًا أصيلًا، وجزءًا لا يتجزأ من كرامة الإنسان.

وقد أكدت النقاشات والحوارات التي شهدها المؤتمر أن السلامة المهنية لم تعد مسألة فنية أو إدارية فحسب، بل أصبحت ضرورة تنموية وأخلاقية، وأحد معايير جودة الحياة في بيئات العمل. وأظهرت الجهة المنظمة حرصًا ملموسًا على أن يتحول هذا الحدث إلى منصة وطنية ودولية لتبادل المعرفة، واستعراض أفضل الممارسات، وتمكين الحوار حول التحولات الرقمية والابتكارات في هذا القطاع، بما يُسهم في رفع الوعي العام، وتوطين الخبرات، وتحفيز المنشآت على الاستثمار في ثقافة السلامة.

ومن أبرز المبادرات التي شهدها المؤتمر إعلان المجلس الوطني للسلامة والصحة المهنية عن إطلاق مشروع نوعي بعنوان «السرد والسردية للسلامة والصحة المهنية»، وهو مشروع يستهدف ترسيخ مفاهيم السلامة المهنية بلغة ميسّرة، ووفق منهج سردي يعكس التجارب الواقعية ويبسّط المفاهيم الفنية، ويُسهم في تعزيز الوعي المجتمعي بمخاطر العمل وطرق الوقاية منها، مع ربط الخطاب التوعوي بالمصطلحات الدولية المعتمدة. ويُعد هذا المشروع خطوة مبتكرة في إيصال الرسالة الحقوقية والتنظيمية إلى الجمهور بأسلوب حديث وإنساني.


كما أعلنت المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، خلال المؤتمر، عن إصدار «الدليل الاسترشادي لمعايير السلامة والصحة المهنية»، والذي يُعد مرجعًا وطنيًا شاملًا يساعد أصحاب العمل والجهات المعنية على تطبيق المعايير الوقائية المعترف بها عالميًا. ويتميز هذا الدليل بشموليته، حيث يغطي ستة قطاعات رئيسة تمثل مجالات عمل كثيفة المخاطر، وهي: الصناعات العامة، وقطاع البناء، والزراعة، والأنشطة البحرية، وقطاع النقل، والتعدين. ويهدف الدليل إلى الحد من الإصابات والأمراض المهنية من خلال الإرشاد إلى أفضل التدابير والإجراءات الوقائية.

وتأتي هذه المبادرات النوعية ضمن جهود المملكة الرامية إلى تعزيز استدامة سوق العمل ورفع كفاءته التنظيمية، حيث تؤمن السعودية أن بيئة العمل الآمنة تشكل أحد الأسس الرئيسة لجذب الاستثمارات، وتفعيل الإنتاجية، وتحقيق أهداف رؤية المملكة 2030. وقد انعكست هذه القناعة في السياسات والأنظمة التي تبنّتها الدولة، وفي مقدمتها التعديلات الجوهرية التي أُجريت مؤخرًا على نظام العمل، والتي شملت تعديل 38 مادة، وحذف سبع مواد، وإضافة مادتين جديدتين. وتأتي هذه التعديلات ضمن حزمة إصلاحات تشريعية تعكس التوجّه الجاد نحو صيانة الحقوق وتعزيز ممارسات العدالة في بيئات العمل.

ويُعطي نظام العمل السعودي أولوية قصوى لضمان سلامة العاملين وحمايتهم من الأخطار المحتملة. فقد نصت المادة (122) على التزام صاحب العمل باتخاذ جميع التدابير اللازمة للوقاية من الأخطار المهنية المرتبطة بطبيعة العمل أو بالآلات المستخدمة، كما منعت تحميل العامل أي تكاليف مالية تتعلق بتوفير وسائل الحماية. وتُعزّز المادة (123) هذا التوجه من خلال إلزام صاحب العمل بإحاطة العامل بمخاطر مهنته قبل مزاولتها، وتوفير أدوات الوقاية الشخصية المناسبة، والتأكد من تدريب العامل على استخدامها بفعالية.

أما المادة (126) فتؤكد أهمية تهيئة بيئة عمل مجهزة بوسائل الوقاية من الحرائق ومنافذ النجاة، فيما تنص المادة (142) على ضرورة توفير خزائن إسعافات طبية أولية مزوّدة بما يلزم للتعامل مع الحالات الطارئة. وتشمل مواد أخرى في النظام جوانب مختلفة من الرعاية الصحية والوقائية التي تضمن للعامل بيئة مهنية متوازنة وآمنة.

ولا تُعد هذه الجهود استجابة مؤقتة أو ظرفية لضغوط دولية، بل تعكس سياسة ثابتة تنطلق من منظومة أخلاقية وتشريعية مترسخة في المملكة، تؤمن بأن احترام حقوق العامل والاهتمام بسلامته هو جزء من التنمية الشاملة التي تسعى إليها الدولة في كل القطاعات. وقد نالت هذه السياسات إشادة واسعة من منظمات العمل الدولية، حيث تم انتخاب المملكة عضوًا في مجلس إدارة منظمة العمل الدولية للفترة من 2021 إلى 2024، وهو ما يمثل اعترافًا صريحًا بجدية الإصلاحات التي تقودها المملكة، ومدى توافقها مع المعايير الدولية المعتمدة.

ويكفي للتدليل على نجاح هذه السياسات، ما نشهده من تسابق الكفاءات العالمية على العمل في السوق السعودية، وهو ما يُعد مؤشرًا عمليًا على ثقة الخبراء والمهنيين العالميين في البيئة التنظيمية والتشريعية السعودية، ومدى ما توفره من ضمانات للحقوق، واستقرار وظيفي، وعدالة في العلاقة بين العامل وصاحب العمل.

إن المملكة، من خلال هذه الجهود المتواصلة، تؤكد أنها لا تكتفي بمجرد تطوير القوانين، بل تسعى إلى تفعيلها عمليًا، وجعل السلامة المهنية جزءًا من الثقافة الوطنية، ومكونًا من مكونات جودة الحياة، وركيزة من ركائز التنافسية الاقتصادية المستدامة.