في خضم البحث عن أدوات فعالة للضغط، تتحول المقاطعة من فعل إستراتيجي إلى ردَّةِ فعل عشوائية تُدار بعيدًا عن معطيات الواقع، ليست المشكلة في فكرة المقاطعة ذاتها، بل في تحويلها إلى طقس تعبوي يفتقر إلى الخريطة الاقتصادية التي تحدد نقاط الضرب بدقة، فغياب الشفافية في تتبع سلاسل الإنتاج يجعل الفرد كمن يحارب طواحين الهواء، بينما تصبح قراراته الاستهلاكية أداة لتصفية الحسابات التجارية تحت غطاء وطني أو قومي، ففي بعض الحالات نرى كيف استغل تجار محليون في دول عربية شعارات المقاطعة لإسقاط منافسيهم، مستفيدين من صعوبة تتبع المستفيد الحقيقي من أرباح الشركات المتشعبة.

لا يقتصر الخطر على التلاعب التجاري، بل يتعداه إلى صناعةِ وعيٍ جمعيٍّ قائمٍ على الاستقطاب، فتحويلُ الولاء للقضية الفلسطينية إلى اختبارٍ يوميٍّ عبر سلوكياتٍ استهلاكيةٍ يُنتجُ مجتمعًا قابلاً للاختراق بسهولة؛ حيثُ يتحوَّلُ أيُّ اختلافٍ في الرأي إلى تهمةٍ أخلاقية، ويُختزلُ النضالُ السياسي في مظاهرٍ رمزيةٍ.

والأخطر أنَّ هذا النمطَ من التفكير يُعيدُ إنتاجَ أدواتِ الإقصاء التي عرفتها الأحزابُ الأيديولوجية، لكن تحت مظلَّةٍ جديدة، كما أنَّ ظاهرة الهجومَ على فعالياتٍ فنيةٍ أو ثقافيةٍ، أو تخريبَها بحجَّةِ دعم المقاطعة والتضامن مع القضية الفلسطينية، ليس سوى وجهٍ آخرَ لتراجع الوعي السياسي؛ حيثُ يُماهي البعضُ بين العنفِ الرمزيِّ وبين الفعلِ الثوري، فيسقطون في فخِّ التعبئةِ العاطفية الفارغة التي تخدمُ أجنداتٍ خارج إطار القضية نفسها.


وبينما لم تؤثر المقاطعات الشعبية في القرارات السياسية الفاعلة في الموقف الفلسطيني، فإنَّ تأثيرَها في الاقتصادات العربية كان أكثر وضوحًا، خاصةً في قطاعاتٍ تعتمدُ على شراكاتٍ مع ماركاتٍ عالميةٍ تمتلك فروعًا محليةً تُشغِّلُ آلاف المواطنين.

هذه المفارقةُ تكشفُ خللًا منهجيًّا في الفعل الجماعي؛ فبدلًا من استهداف مراكز القوى الاقتصادية، تُصبِحُ المقاطعةُ أداةً لتعميقِ التبعية، حيثُ تُدمِّرُ المجتمعاتُ بنيتَها التحتية الاقتصادية بأيديها، تحت شعاراتٍ حماسية.

والتاريخُ يقدّمُ دروسًا واضحة، إذ نجحت مقاطعةُ نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا عندما ترافقت مع إجراءاتٍ دوليةٍ مُمنهجة، وبياناتٍ دقيقةٍ عن الشركات الداعمة للنظام، وحملاتٍ توعويةٍ حول البدائل، أما تحويلُ المقاطعة إلى موجةٍ عاطفيةٍ تُدارُ عبر منصات التواصل، دون أدواتٍ لقياس الأثر أو تصحيح المسار، فإنها تُعيدُ إنتاجَ الفشل، فمقاطعةُ شركةٍ عالميةٍ في فرعها المحلي -مثلًا- قد تُؤدي إلى إغلاقه، بينما تتعزَّزُ أرباحُها في فروعٍ أخرى، أو تظهرُ شركاتٌ جديدةٌ بنفسِ الإطار الاستثماري.

الوعيُ السياسي الحقيقي يبدأُ عندما نتوقفُ عن تبني الأدواتِ الجاهزة، ونبحثُ عن إستراتيجياتٍ تعتمدُ على تمكين الذات قبل إضعاف الآخر، فالدعوةُ إلى مقاطعةِ منتجٍ ما يجبُ أن تقترنَ بحملاتٍ لتشجيعِ منتجٍ وطنيٍّ قادرٍ على المنافسة، مع كشفِ العلاقات المالية للشركات المستهدفة عبر منصاتٍ تفاعليةٍ تصلُ للجمهور بلغةٍ بسيطة، كما أنَّ ربطَ المقاطعةِ بسقفٍ زمنيٍّ ومؤشِّراتٍ ملموسةٍ يُجنِّبُها التحوّلَ إلى عبثيةٍ ممتدة.

الخلاصةُ المؤلمة: لا يمكنُ اختزالُ قضيةٍ معقَّدةٍ كالقضية الفلسطينية في شعاراتٍ استهلاكيةٍ أو مظاهر عنفية، وكما أنَّ التسرُّعَ في تبني المقاطعةِ دون دراسةٍ يُضعفُ التأثيرَ المرجو، فتحويل الفعاليات العامة إلى ساحاتٍ للتنمرِ يُفقِدُ القضيةَ شرعيتها الأخلاقية، النضالُ الحقيقي يبدأُ عندما نتوقفُ عن ضربِ أنفسنا باسم ضربِ العدو.