تنتهي من قراءة إيمانويل كانط في إجابته على سؤال: «ما التنوير-ما هي الأنوار؟»، إلى أنه «خروج الإنسان من حالة القصور التي فرضها على نفسه بسبب نقص في التصميم والحزم والشجاعة على استعمال عقله دون الرجوع إلى الغير.. تجرأ على استعمال عقلك أنت»، لكن لولا قراءتي لعبدالله القصيمي لما أدركت عمق ما قصده كانط، إذ كان القصيمي الوحيد الذي ركب حصان الفكر بلا سرج ولا لجام، وانطلق فارسًا مغوارًا لا يلوي على شيء سوى تحطيم «أوهام دونكيشوت العربي» بمطرقة القلم، لعل «دونكيشوت العربي» يتجرأ على استخدام عقله، ويفيق من معارك «طواحين الهواء».

القصيمي بتجرده الفكري، تجاوز كانط في الإجابة على سؤال التنوير بكل شجاعة، ففي مقاله بمجلة الآداب عام 1955م، العدد 7 بعنوان: «اقتباسات من انجيلٍ لم تعرفه المجامع»، يقول: «الشعوب أربعة: شعب يبتكر الحضارة، وشعب يقلدها، وشعب ينفعل بها، وشعب لا يبتكرها ولا يقلدها ولا ينفعل بها.. فمن أي الأربعة نحن؟».

بقدر جرئتنا على استعادة القصيمي بقدر تصميمنا وشجاعتنا على «التفكير الحر»، إننا نتمرن على فروسية الفكر بقدر ما نقرأ عبدالله القصيمي، إن كتبه ليست طريقًا إلى خلاص معين، بل هي كشف وتعرية وتحطيم لأوهام «دون كيشوت العربي»، وبعد نصف قرن لا تزال كتاباته تمنح قارئها الجرأة لفهم رسالة كانط كما ينبغي.


عبدالله القصيمي عندما يكتب يضيق بقرائته كل أجيال «ثقافة الإجابة» بلا استثناء، لكن أبناء «ثقافة السؤال» القادمين من المستقبل في القرون القادمة، سيرون فيه رائدًا من رواد التنوير العربي، حتى عندما قال عنه أدونيس: إن القصيمي يقول كل شيء ولا يقول شيء، ربما كان يستكثر على من يركب حصان الفكر بلا سرج ولا لجام، أن يمارس قفز الحواجز هازئًا وساخرًا، مثله مثل رموز التنوير الأوروبي.. فهل كان فولتير سوى هذا، هل لو كتب القصيمي بلغة يظهر عليها السرج الأكاديمي واللجام المدرسي، مثل «الثابت والمتحول» سيصادره أدونيس إلى هذه الدرجة، ويصفه بأنه «لا يقول شيء»؟!.

إني أستمع لأدونيس الآن، وقد تجاوز التسعين، فلا أراه سوى صدى ضعيف متهالك لما كان قبل ستين عامًا يقوله القصيمي صراخًا وعويلاً وهتافًا ونداءً وزجرًا وضجيجًا في سبيل «الجراءة على استخدام العقل» فما قاله كانط في رسالته بأدب التلميذ لأساتذته، فعله القصيمي ثورةً وانقلابًا على المدرسة والمناهج، إنه مزيج من سخرية فولتير ومطرقة نيتشة.

سأترك مهمة الدفاع عن القصيمي للقصيمي نفسه وأقتبس من مقاله الطويل الذي أهداه إلى أصدقائه الثائرين عليه بعنوان «دفاعًا عن العرب والإسلام» بمجلة الآداب 1955، العدد 10 إذ يقول: «... لو وجدنا من يتهم -العرب والدين- بمقاومة المفكرين والأحرار في أي عهد من العهود لحسبناه عدوًا للعروبة وللدين، يريد أن ينال منهما بهذه التهمة الكاذبة الفظيعة، ونحن دائمًا كلما أردنا أن نعدد محاسن الإسلام والعرب نذكر في أول ما نذكر صداقتهما للحريات والأفكار والترحيب بهما، مهما كانت جنسياتهما وأوطانهما.. وهذا لأن الناس جميعًا مقتنعون بأن الحرية والتفكير زادان إنسانيان لا يمكن الاستغناء عنهما لأنهما هما المادة الأولى التي صنعت منها جميع حضارات الإنسان، ولكننا بعد هذا نرجع ونتهم الطبيعة العربية والدين بما نحاول تبرئتهما منه.. إذا كتب كاتب مبديًا آراءً في الدين أو في الثقافة العربية، وكانت هذه الآراء تخالف ما أطعمناه في الصغر، نهب غاضبين ونصر على اتهام ذلك الكاتب بالكفر وبالتآمر، ثم نمضي في حملتنا الصاخبة العنيدة حتى نخمد ذلك الصوت الغريب أو نجهز على صاحبه بعد أن نغمس أشلاءه في دماء الجريمة، ونلوث ثيابه بالأوحال، ونكتب على قبره وثيقة الاتهام».

نحن العرب والمسلمين لسنا محتاجين إلى مزيد من الرضا عن النفس والإعجاب بالتاريخ والآباء، إذ نحن -والحمد لله- متفوقون في هذا تفوقًا حاسمًا، ولكننا محتاجون إلى أن نحول بعض هذا الغرور وهذا الرضا إلى عمليات صعبة، إلى حوافز تجعل منا فاعلين لا متحدثين فقط عن مجد التاريخ ومجد الأسلاف، فأسلافنا يرضيهم أن نتفوق عليهم أكثر مما يرضيهم أن نفاخر بهم.. إن أفضل دفاع عن العرب والإسلام هو أن نكون أحرارًا وشجعانًا وفضلاء ونافعين للحياة.. وليس من الدفاع ولا من الصلاح أن نخشى الحرية، وأن نلعن الأحرار ونتشدد في قبض أيدينا على رياح الماضي أو ترابه!! وأن إضافة أي جديد إلى حياة العرب والإسلام، من القوة أو العلم، لأفضل وأقوى في الانتصار لهما والدفاع عنهما من جميع الدموع واللعنات التي نفرزها سخطًا على المخالفين أو بكاء على الدين!.

أخيرًا.. يحكي هاشم السبتي في مجلة البيان الكويتية العدد 307: أن الراحل جمال عبدالناصر نقلاً عن وزير داخليته شعراوي جمعة قال للقصيمي: «إن ما تكتبه لا يصلح للعالم العربي الآن، بل بعد خمسين عامًا»، وأقول: حتى في نبوءة الفكر والثقافة خسرت يا عبدالناصر ولم تحزر.. ولا بعد قرن يا جَمَال.. ولا بعد قرن.