في افتتاح محاضراته في جامعة هارفرد عن التربية والتعليم يعرّف الفيلسوف الأمريكي كورنيل ويست التعليم الحقيقي بأنه "أن تتعلم كيف تموت". الموت بالنسبة لويست ليس حادثة تقع في آخر حياة الإنسان بل هي إجراء يومي يتخلص الإنسان فيه من جزء منه. التعليم هنا هو أن نتعلم كيف نتخلص يوميا من انحيازاتنا وأفكارنا المسبقة وأحكامنا غير المدروسة عن الآخرين. أن تذهب للمدرسة أي أن تذهب للتخلص من جزء منك وتصنع جزءا آخر. تذهب للمدرسة لكي تفقد جزءاً منك، تودّعه، تفارقه، تبدأ حياة جديدة بدونه. المدرسة هي الأفق الأوسع الذي نتجه لنتغيّر، لنختلف، لنصبح كائنات أخرى، لنعرف كيف نموت ونحيى. من حسن حظّ الإنسان أن لديه جزءا بسيطا من اتساق وانتظام يوفّران له نعمة أن يزيح المعرفة الممحصة تلك المترسبة من التقليد، أن يستخرجها من تلافيف المخ ويعلن وفاتها. بسبب هذه الخاصية تحديدا كان للتعليم معنى.
كانت معضلتي الحقيقية بصفتي معلما، هي كيف أذهب للمدرسة لأتغيّر وأساعد الآخرين ويساعدوني على التغيّر في نظام تعليمي تم إعداده ليجعلك ثابتا ويقاوم نزعة التغيير في داخلك. نظام يكافح نزعة التغيير لأنه يقول لك ومن اليوم الأول إن هناك طريقا واحدا، طريقا لا يعطيك الفرصة لتكتشفه بنفسك بل هو طريق مرسوم وجاهز وما عليك إلا سلوكه. كانت معضلة كبرى وعميقة ولكن في التعليم سمة واحدة كانت بالنسبة لي المنفذ للخروج من هذه المعضلة وهي أن التعليم تواصل، التعليم اجتماع بشري، المدرسة هي مكان يذهب له عدد كبير من الناس ليتعلموا شيئا ما، كان هذا الشرط كافيا لي لفتح سياق كامل من التأثر والتأثير خارج صلب ومضمون التعليم الرسمي. كان فرصة لي للتعرف مباشرة ومن تجارب حقيقية على معان وثقافات مختلفة لم يكن من السهل معرفتها خارج التعليم. كان فرصة للتعرف على تجربة طالب مراهق من مصر للتو انتقل مع عائلته للسعودية، كان مدهشا للصف كله حديثه عن حنينه لوطنه ونيّته في ذات الوقت للنجاح هنا، بالنسبة لي كان هذا الطالب معلميّ الأول في تجربتي للاغتراب والدراسة في أمريكا. كان أيضا معلما للطلاب وملهما لهم في حب الوطن والحنين له. كان التعليم فرصة لي وللطلاب الذين قضوا أغلب حياتهم في المنطقة الوسطى أن نسمع شيئا عن فيفا، عن نجران، عن تبوك، عن ينبع.. الخ، أن نسمع عنها لا كما نسمع عنها في التلفزيون بل أن نعرفها من تجربة إنسانية مباشرة، من حياة كاملة. أغلب الطلاب يأتون بأفكار مغلوطة ومسبقة عن الآخرين لدرجة أنهم لا يعرفون بعضهم حقيقة. مثلا الطالب البدوي يأتي بصورة نمطية عن الطالب الجيزاني والطالب الجيزاني عن الطالب البدوي والجميع يأتون بصورة نمطية عن الطالب غير السعودي وهكذا. كان التعليم الحقيقي الذي مارسته هو مساعدة الطالب البدوي على الاستماع للجيزاني، أن يرى جيزان كحياة وثقافة كاملة من خلال عين من عاش فيها أن يعرف ماذا يعني له الفن والرقص والبحر، وللطالب الجيزاني أن يرى حياة البداوة من عين صديقه في الصف، أن يعرف ماذا يعني له البر والإبل والانطلاق بلا قيود. في هذه اللحظات تحديدا يتحقق التعليم بوصفه معرفة الإنسان للإنسان أو كما يقول كورنيل ويست التعليم بوصفه موتا لانحيازاتنا وعنصرياتنا وأحكامنا المسبقة.
أيضا كان التعليم فرصة لنا جميعا أن نتكلم. أن نتكلم كما نحن في مجتمع يضع آلاف القيود على الكلام. أن نتكلم كما نريد لا كما يراد لنا. الكلام هنا يصبح فعلا، يصبح حبا وكرها، رغبة واعتراضا، أملا وإحباطا، الكلام يصبح طردا واستقبالا، بل كما يقول ويست يصبح الكلام موتا لأنه يطرد من دواخلنا أشياء كثيرة.
ينجح التعليم عندنا إذا قال للطالب: تكلّم في حين يقول له المجتمع: اسكت. ينجح حين يقول للطالب: انقد في حين يقول له المجتمع: سلّم. ينجح حين يقول للطالب: فكّر في حين يقول له المجتمع: اتبع. تعليمنا كنظام لا يفعل هذا ولكن المعلم الإنسان يستطيع أن يفتح هذه النافذة. من هذه النافذة تحديدا يمكن الخروج من معضلة التعليم ومن المسؤولية الأخلاقية التي يتحملها المعلم تجاه نفسه وطلابه ومجتمعه.
مهمة المعلم هي أن يدرك أن في كل صف عوالم بعدد كل طالب. كل طالب عالم مستقل، تجربة، حياة، ثقافة، معنى يتحرك. في كل طالب ثروة لا تقاس بمال. تقدير كل هذا يفتح واسعا المجال الإنساني المشترك في داخل الصف. تقدير كل هذا يجعل من التعليم يتعالى على التلقين الروتيني للمعلومات أو فرض السلطة والقوّة إلى أن يصبح تجربة حياة ثمينة. من أكثر الطلاب الذين أثّروا في حياتي طالب درّسته في ثانوية الحائر في الصف الأول الثانوي. كان الطالب اجتماعيا ينتمي لأقلية لا يحظى عادة أفرادها بعلاقات اجتماعية واسعة، كان يعاني من صعوبات بسيطة في النطق والحركة ومحلّا دائما للسخرية من زملائه ولكنه في المقابل كان طاقة مذهلة. كل صباح يأتي مبتسما ليقف في أول الطابور. في الصف هو أول المستعدين للقراءة أو المشاركة، في النشاطات خارج الصف تجده موجودا بكل ثقة وطمأنينة. في حصة الرياضة تجده يغالب صعوباته ليشارك زملاءه، ويستمتع باللعب. باختصار كان حياة كاملة تلهمني يوميا لأدفع كسلي وإحباطي وعجزي ويأسي للموت. آخرون كانوا يذكرونني يوميا أن التمرد جزء من الإنسان وآخرون كانوا يصرخون يوميا بأن هذا المكان مكان ممل فأنقذونا. باختصار كان اجتماع كل هذه الأجساد والعقول الفتيّة في المدرسة طاقة حياة جبّارة تدفع الموت في داخلنا للعدم.