إذن كأنَّ مجلسَ مناظرة «درستويه» وصلَ لهذه النتيجة: «إذا سكتنا نفينا الأضداد، لأنَّ في السكوتِ تجلٍ للمنطق الإلهي، وإذا تحدثنا أثبتنا الأضداد، لأنَّ في الكلامِ تَجلّ لتداوليةٍ إنسانيةٍ يَرفضها العقلُ حالَ سكوته»، وهذا ما أظهرَ عندَ العربِ مصطلحَ «السُنّةِ» بوصفه سلوكًا يُعبِّر عن المراد من الألفاظِ، لهذا نجد علماءَ اللغةِ العرب يَتعمّدون قولَ «التضادّ في اللغة من سُنن العرب»، ويَعنون به الطرائقَ السياقية التي يَفهمون بها الحديثَ مهما جَرى فيه من تضاد.
ولم يَكن الصراع حول مفهوم «السنة» في التاريخ الديني إلا شَكلًا من صراع الأضداد، فقد كان سلوكُ النبي وصحبِه حلًّا لأضدادِ الكلام وصراع اللغة حين تَسبَح في سماوات الأصل، وهذا ما يَجعل العرب القدماء لا يحبون التمنطق الأرسطي، ولا يُحبون من يحبه! لأنَّه «يُخفِي الإنسانَ الظاهر، ويُظهِر الإنسانَ المتخفّي»، وهذه الجملة التي بين قوسين فيها تضاد متعمد؛ لأنَّ الظهور ظهور عقلي، ولم أستطع أن أنفي تضادّها إلا حين شرحتُها، وهذا ما يجعل العرب أمة لها دينُها الأرضي والسماوي في آنٍ واحد، ولا يَشرح هذا التضاد إلا الكلام، فكونه أرضيًا؛ لأنَّهم لا يَقطعون بأي معنى إلا بالسلوك الفعلي والكلامي، وكونه سماويًا، لأنهم مؤمنون بأنَّ ثمة لغة جاءت من السماء، ووضِعت في لوحٍ محفوظ.
التفاتة:
منطق أرسطو يُحيلنا على أستاذِ جيلِه سُقراط، ذلك الذي تُنسَب إليه مقولة: «تكلم حتّى أراك»! والكلام يقابل المظهر الخارجي، لهذا أراد أن يرى جوهرَه بالكلام، إلا أنَّ من معانيه التي لم تظهر حتى لسقراط نفسه!! إن الكلام هو ما يَجعل الإنسان إنسانا، لا من جِهة الجوهر، بل من جِهة المظهر، أي الكلام هو ما يجعلنا نجتمع مع المتضادات بكامل الأريحية.