الغناء في الحجاز يضم كثيرًا من هذا التراث الذي لا يعرف مؤلفوه أو ملحنوه، ولكنه تواتر إلينا بالمحافظة عليه جيلاً بعد جيل.

كانت الأغاني الشعبية في الحجاز تنطلق على الألسنة، كان يهتف بها المغنون أو يرددها الأطفال في الأزقة والحواري. هذه الأغاني التي لا يعرف مؤلفوها بل ولا ملحنوها، ولكنها تنطلق وتشيع كما يشيع الهواء يستنشقه الناس، ولكنهم لا يعرفون مصدره. وكانت هذه الأغاني كثيرة وبعضها كان مؤذيًا لأنه كان يتحدث عن إنسان معين يسمى باسمه أو لقبه، وتلصق به التهم السيئة، وبعضها كان سليمًا من هذا الفحش ولكنه يتمتع بنصيب من الفن والعاطفة، وكان أكثر هذه الأغاني خاصة هذا النوع المؤذي لا يعيش طويلا، لأنه سرعان ما يتنبه له الناس فيخشى من يهتف به مغبة الاستمرار.

وإني لأذكر أن أغنية فاحشة انطلقت ضد غلام من جيراننا كانت مليئة بالأذى، وكان الصبية يتعمدون الجهر بها أمام داره مما اضطره إلى الشكوى لمنعها. وكان هذا كيداً عظيماً من المؤلف المجهول، هذه الأغاني بالرغم مما ذكرناه عن بعضها كان البعض منها يتصل بالفن بأسباب كثيرة. ففيها الخيال، وفيها الصورة، وفيها العاطفة، وإن كانت لا تتقيد بقيود اللغة والنحو أو تلتزم ببحور الشعر المقفّى الموزون التزامًا دقيقًا في كل الأحيان.


وقد لاحظت بسرور أن بعض هذه الأغاني قد أعيد تلحينه وغناؤه على يد فنانين مهرة أمثال محمد عبده وطارق عبد الحكيم. فأغنية محمد عبده:

«يا مركب الهند يا بودقلين

ياريتني كنت ربانه»

هذه الأغنية قديمة قد تعود إلى نحو ستين عامًا. فقد كنت أسمع الناس يتغنون بها وأنا في نحو العاشرة من عمري، وأغنية «الخيزرانة» التي يغنيها طارق عبد الحكيم وغيره من المغنين المجيدين هي كذلك أغنية قديمة قد لا يقل عمرها عن نصف قرن، وأمثال هذه الأغاني كثير. ولعل المغني المبدع محمد علي سندي هو زعيم المحافظين على هذا التراث الغنائي الذي جدد به عهد زعيمي الغناء في الحجاز «حسن جاوة، وإسماعيل كردوس»، والذي يضم بين ما يضمه كثيرًا من هذا التراث الذي لا يعرف مؤلفوه أو ملحنوه، ولكنه تواتر إلينا بالمحافظة عليه جيلًا بعد جيل.

ومن المناسب ونحن نتحدث عن الأدب والثقافة أن نذكر أن نصوص هذه الأغاني المجهول مؤلفوها يمكن اعتبارها أدبًا شعبيًا، لأنه نابع من أفكار وعواطف لأفراد من صميم الشعب،.

وحبذا لو قامت لجنة الفنون والآداب أو غيرها من الجهات المعنية بهذه الأمور، بالبحث عن هذه الأغاني وإعادة تلحينها وإنشادها، باعتبارها تمثل فترة من التراث الفني الشعبي للبلاد.

1975*

* أديب ومؤرخ سعودي «1915 - 1996».