ومن أعجب ما نسمع، أن البعض يختزل المملكة العربية السعودية ـ الدولة التي تحمل على أكتافها إرث الإسلام ومفتاح الحرمين وموقع القلب من خريطة العالمين العربي والإسلامي ـ في حفنة مليارات أو صفقات تجارية. هؤلاء الجهلة يسوقون بفقر خيالهم أن كل تصريح إيجابي من مسؤول أمريكي أو زائر دولي هو حصيلة دفعة مالية أو شيك موقع باسم النفط!
وهنا نتساءل: كيف يتجرأ أحدهم على اختزال عمق العلاقة السعودية- الأمريكية، التي صمدت على مدى أكثر من تسعة عقود، في مجرد صفقات، هل نسيتم أن هذه العلاقة بدأت حتى قبل تأسيس منظمة «أوبك» التي كانت السعودية من مؤسسيها، وقبل أن تكتشف أغلب آبارها الكبرى؟ ألم تقرؤوا التاريخ حين وقف الملك عبدالعزيز مع الرئيس روزفلت في «البحيرات المرة» عام 1945، على متن البارجة كوينسي، وبنيت أولى قواعد التفاهم على أسس أمنية وسياسية ووعي مشترك بمصالح المنطقة، لا على شيكات وتعاقدات؟
ثم هل تظنون أن تصريحات رئيس دولة كأمريكا، وحجم اقتصادها يفوق 30 تريليون دولار، تشترى وتباع؟ من يردد ذلك لا يفقه طبائع السياسة، ولا يدرك أن الاعتراف بالقوة لا يصنع بالمال بل بالحضور. وها هو ترمب يصرح من الرياض، ثم من الدوحة، ثم من أبوظبي، ثم من واشنطن، بأن «لا أحد يستطيع كسر العلاقة بين أمريكا وحلفائها في الخليج»، فهو لا يتحدث من فراغ، بل من إدراك أن هذه الدول تغيرت، فحتى حين كانت تعرف دول الخليج بتصدير النفط، كانت أيضا تسهم في صناعة القرار، واليوم تكرس دورها قوة تصدر الرؤية وتعيد تشكيل موازين التأثير.
في كل موقف عالمي، من حرب أو أزمة تجد للسعودية رأيا يسمع، ولرأيها وزن يحسب. من أوكرانيا إلى السودان، من غزة إلى أسواق النفط، ومن قمم العشرين إلى اتفاقيات السلام، هناك صوت سعودي يقول: نحن لسنا تابعين نحن شركاء.
الذين ينكرون هذه الحقيقة، هم أنفسهم الذين لم يقرؤوا التاريخ جيدا، ولم يدركوا أن الدولة التي أنجبت رجالا مثل الملك فيصل الذي هز بوقفته النفطية الغرب بأسره، والملك فهد الذي قال في وجه العالم «إما أن تعود الكويت أو تذهب السعودية معها»، لا يمكن أن تختزل في أرقام البورصة أو حسابات البنوك.
من يسخر من العلاقة بين قادة السعودية والرؤساء الأمريكيين، ويعتقد أن الأمر مجرد «مديح مقابل مال»، لا يفقه من فنون السياسة شيئا. فليس كل من امتدحك مأجور، كما أن ليس كل من انتقدك حر.
والرئيس ترمب، حين يواصل تصريحاته الإيجابية من الخليج إلى واشنطن لا يجامل، بل يدرك أن هذه المنطقة التي طالما أثرت في توازن القوى وامتلكت مفاتيح الطاقة، باتت اليوم تعيد تشكيل قواعد اللعبة الجيوسياسية بحضور أوسع ونفوذ أشمل. السعودية ليست مالا فقط، ولا الإمارات، ولا قطر. هذه دول تقود وتشارك وتؤثر.
السعودية اليوم ليست صفقة بل شريكا. وليست تابعا بل صانعا. وليست مجرد دولة نفط بل ثقافة وفكرة وهوية وموقف.
فيا من اختزلتم عظمة وطن في حفنة أرقام اعذرونا فأنتم لا تفهمون.