في خضم الفوضى التي عصفت وتشتدّ بالعالم العربي بين حين وآخر، تبرز المملكة العربية السعودية كركن ثابت في خيمة متأرجحة، وكأن قدرها أن تكون القائد الهادئ في زمن تعالت فيه الأصوات وتكسرت فيه الحدود. ليس الحديث هنا عن انتماء أو عاطفة وطنية محضة، بل عن شواهد تاريخية، ومواقف سياسية، وخيارات إستراتيجية جعلت من السعودية رقمًا صعبًا في معادلة الاستقرار الإقليمي.

السعودية اختارت منذ تأسيسها أن تكون عامل بناء لا هدم، صوتًا للعقل لا للضجيج، ومظلة حماية لأمن المنطقة لا مصدرًا لقلقها. وعلى مر العقود، تميزت سياستها بالهدوء، والحكمة، وعدم التدخل في شؤون الغير، لكنها أيضًا لم تتأخر يومًا عن نجدة الأشقاء متى داهمهم خطر، أو باغتتهم الفوضى.

المملكة، بحكم موقعها الجغرافي وثقلها الديني والسياسي والاقتصادي، لم تتعامل يومًا مع الأزمات من منطلق المصلحة الضيقة، بل انطلقت في نهجها من قناعة راسخة أن استقرار الجوار يعني استقرار الداخل، وأن دعم الأشقاء ليس رفاهية، بل التزام أخلاقي وتاريخي.


من لبنان إلى اليمن، ومن مصر إلى البحرين، مرورًا بالأردن والسودان وفلسطين، كانت يد المملكة ممدودة بالخير، لا تبتغي مقابلًا، ولا تفرض وصاية. دعمت الدول حين اشتدت عليها الأزمات، ووقفت مع الشعوب حين عزّ النصير، وقدّمت من المساعدات ما لم تقدّمه دول تتغنى بالإنسانية في شعاراتها فقط.

ليست المساعدات المالية وحدها ما يميز السياسة السعودية، بل الرؤية التي تقف خلفها. المملكة لا تمنح المال لترتبط ولاءات، ولا تضع شروطًا سياسية تخنق القرار الوطني، بل تنطلق من مبدأ أن العروبة رابطة، وأن الأخوّة التزام، وأن الفوضى لا تُستَثني منها دولة إذا تمددت.

في زمن كانت فيه بعض الدول تتدخل في شؤون جيرانها لإثارة الفتن وتمزيق النسيج الاجتماعي، اختارت السعودية أن تكون صانعة للسلام، وحامية للدولة، لا مشجعة على الانقلاب عليها. في سوريا، دعمت الشعب لا الفوضى. وفي اليمن، اختارت أن تحمي الشرعية لا الميليشيا. وفي لبنان، كانت على الدوام طرفًا يسعى لتقوية الدولة لا لتقسيمها.

ولا يخفى على أحد، أن مواقف السعودية لم تكن لحظية أو انفعالية، بل جاءت ضمن مسار طويل من الحكمة السياسية التي اتسمت بها المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز، ومرورًا بأبنائه الملوك، وحتى هذا العهد الزاهر بقيادة الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حيث اتسعت الرؤية لتشمل نهجًا جديدًا من القوة الناعمة والتأثير الإيجابي إقليميًا ودوليًا.

ليس من باب المبالغة القول إن السعودية تشكّل اليوم ميزانًا دقيقًا في توازن القوى في الشرق الأوسط. فهي من جهة ترفض سياسة المحاور والانحيازات العمياء، ومن جهة أخرى تسعى لتعزيز العمل العربي المشترك، وتبني على قيم الاعتدال لا التطرف.

حين نتأمل سياسات المملكة خلال العقود الماضية، ندرك أن استقرار الشرق الأوسط لم يكن ممكنًا لولا وجود دولة بهذا الحجم، وهذه الرؤية، وهذا الالتزام الأخلاقي. فهي لم تكن يومًا دولة تبحث عن الأضواء، بل كانت وما زالت تعمل بهدوء، وتُطفئ الحرائق قبل أن يشعلها الآخرون.

اليوم، حين تُذكر السعودية في المحافل الدولية، تُذكر باعتبارها ركيزة استقرار، ودولة تقود لا تتبع، وتُصلح لا تفسد. هذه ليست مجاملات إعلامية، بل نتيجة طبيعية لمسيرة طويلة من المواقف التي اختارت البناء على الخراب، والسكينة وسط الضجيج. بل تحوّلت من مجرد قوة إقليمية إلى نموذج لدولة تتقدّم بثبات، وتدفع نحو الاستقرار دون ضجيج، وتعيد تعريف معنى القوة: ليست بالصوت المرتفع، بل بالحكمة التي تبني، وتُطَمئن، وتستوعب، وتُصلح.