في الحديث الشريف (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه). هذا النص النبوي يكشف أن عقيدة الإنسان تُغرس فيه منذ طفولته بتأثير أبويه، وهو أمر خارج عن إرادته الحرة، ما يدعو إلى التسامح مع من يحمل عقيدة مختلفة بدلًا من إيذائه.

لكن، وبدلًا من استيعاب هذا الحديث الذي يحث على التسامح مع المختلف لأن عقيدته شُكّلت فيه منذ الصغر، نرى جماعات متشددة تحارب كل من يخالفها. لو أن هذه الجماعات المتشددة استوعبت الحديث، لأدركوا أن التسامح مع المختلف هو جوهر الإنسانية. لطالما تعجبت من هؤلاء الذين يسعون لقتل المختلف ماديًا أو معنويًا، أو ابتزازه والتشهير به، بل ويتقربون إلى الله بأفعال تناقض الفطرة الإنسانية. مخيف جدًا إيمان الإنسان بأن الله خلقه هو وجماعته على الحق وحدهم، ومن ثم فإن عليهم -لا أن يهدوا العالم فقط- بل أن يؤذوا كل من يحاول الخروج من عباءتهم!

كيف يمكنهم أن يعيشوا حياة طبيعية، فيها من النعيم الكثير، وهذا النعيم يخالف تعاليمهم الدينية، ويعيشونها كأسلوب حياة بشكل سعيد! بمجرد أن تطرأ على عقلك فكرة مختلفة وتصرح بها، فإنهم يتحولون إلى أدوات للإيذاء تتقرب إلى الله بإلحاق أكبر قدر ممكن من الأذى بك وبكل من يختلف معهم! الإنسان يبرهن أنه كائن غير عاقل، مع أن الأغلبية ستصدم من هذه العبارة، ولكن معطيات الواقع تقول ذلك؛ وإلا فكيف لمن تخرّج في قسم الفيزياء أن يؤمن بقتلك لأنك حملت فكرة مختلفة؟ فهنا تم تغييب العقل، وتصرف الإنسان ككائن حيواني لا علاقة له بالعقل. وهذا مشاهد على جميع الأصعدة، ولدى جميع الشعوب، والأمم، والمجتمعات!


التعصب يجعل الإنسان يعتقد بأفضليته على الآخرين، بينما هو مجرد شخص، مثله مثل أي شخص آخر. هذا النفاق الأيديولوجي يمنح الإنسان المبررات الكافية للعنف، وإرهاب الآخر، وارتكاب الجرائم باسم الدين أو المعتقد دون أن يرف له جفن، ما دام ذلك في مرضاة الإله! هذا الاستحقاق مرعب ومخيف لدى عقلاء الأمم والمجتمعات.

الأمم المتقدمة حاربت متطرفيها، مقنعةً إياهم بالتعليم حينًا، وبفرض الأمن حينًا آخر، سعيًا منها لسحق هذه الظاهرة. من هذه الأحداث نتجت العلمانية التي عزلت الأديان عن السياسة، والخاسر الأكبر في هذه المعادلة «المتعصبون» الذين لم يواكبوا الطبيعة البشرية، واتبعوا طبيعة معادية للإنسان، وجعلوه متوحشًا مثله مثل الكواسر في الغابات!

على عقلاء المجتمعات التي لم يجتَحْها هذا الطوفان أن يتداركوا الأمر، فالأجيال القادمة، مهما فعلت، ستتساءل، وتتجه نحو عمق فلسفي لن تستطيع إيقافه، فإما أن تجاريها، حتى وإن خرج من تحت عباءتك الجموع زرافاتٍ ووحدانًا؛ أنت لن تستطيع إيقاف الطوفان، وإنما تستطيع أن تخفف من أضراره!

التناقض بين سلوك الإنسان في ممارسته لحياته الاعتيادية وبين العنف الذي يمارسه تجاه من يختلف مع معتقداته أو من يخرج من عباءة وصايته؛ تناقض كبير بحجم هذا الكون الذي نعيش فيه. فهذا الإنسان ذاته الذي يعيش حياة بالأسلوب ذاته الذي يعيشه الأوروبي، يمارس النقيض تمامًا فيمن يختلف معه من بني جلدته.

هذا المرء تجده يبرر العنف، والقتل، والسحل في أحيان كثيرة تجاه هؤلاء الذين لا يوجد أي اختلاف بينه وبينهم سوى داخل الجمجمة! وهنا يكمن خطر غسيل الدماغ الذي يمارس عبر الجماعات المتشددة التي يعادل عملها عمل دول، وللأسف الشديد. هذه الجماعات لديها إمكانيات بحيث تدير إمبراطوريات تنتهج وترسخ هذه الأيديولوجيا المنافقة، والتي تعمل على مدار الساعة للتحكم بالناس وبالأفراد، وتوجيههم حتى فيما فيه ضرر على إنسانيتهم وطبيعتهم البشرية! هذه الأفكار تخلق أيديولوجيا عنيفة وعنصرية مقيتة، وتفكك المجتمعات على المدى البعيد، مع أن أتباعها ومنظّريها يعتقدون أنها تؤدي إلى تماسك المجتمع! فالمؤمن يشترك في أسلوب الحياة مع الخارج عن عباءة الأيديولوجيا، ولكن الأيديولوجيا خلقت اعتقادًا لدى منظّريها، ومن ثم لدى أتباعها، بأنه مهما كان سلوكك ونمط عيشك مختلفًا؛ فإن المهم هو الأفكار القابعة في جمجمتك، وفوق هذا كله؛ أنت محاسب على أن تحاسب الآخرين على ما في عقولهم!

الإنسان كائن غير عقلاني. ولهذا علينا التنبه جيدًا لهذا كي نتمكن من قيادة مجتمعاتنا نحو جودة حياة أفضل بكثير مما هو متوقع، فجودة الحياة ليست فقط في الشوارع الفسيحة، ولا في البنية التحتية المتقنة، بل هي أبعد من ذلك؛ فهي تمتد إلى ثقافة الإنسان التي من خلالها يعالج الأفكار التي تختلج في دماغه! لن تتحول المجتمعات تحولًا جذريًا إلا عبر وضع الثقافة تحت المجهر، وهذا مؤلم، ولكن لا بديل عنه حتى يستيقظ الإنسان من الغفلة العقلية التي أُدْخِلَ فيها! وكذلك ليعلم المرء أنه لا توجد أحقية له بأن يحكم على الآخرين، سواء غيروا أفكارهم أو بقوا عليها. يا سادة يا كرام، الحماقة ليست في الخطأ، بل في الظن أنك أفضل من غيرك!