في زحمة الطوارئ، وبين صوت الأجهزة، ونظرات القلق في عيون المرضى، هناك إنسان خلف المهنة. الممارس الصحي. ذاك الذي لا يُرى إلا كـ «خدمة»، بينما هو في حقيقته روح لها طاقة وحدود. في القطاع الصحي، كثيرًا ما يُنسى أن الطبيب، والممرض، والمعالج، وحتى الموظف الإداري، ليسوا آلات، بل بشر يحتاجون إلى ما يمنحونه للآخرين: العناية.

التوازن النفسي للموظف بالقطاع الصحي لم يعد «ترفًا»، بل ضرورة ملحّة. ليس فقط من أجل الموظف، بل من أجل المريض أيضًا. فكيف يمكن لمن يشعر بالضغط، والقلق، والانفصال الداخلي أن يمنح مريضه الطمأنينة؟ كيف يمكن لفاقد التوازن أن يكون سببًا في استعادة توازن غيره؟

الجودة الحقيقية في الرعاية الصحية لا تُقاس بسرعة التشخيص، أو دقة الإجراء الطبي، بل بمدى حضور الممارس النفسي، بمدى صبره، واهتمامه، وقدرته على الاستماع والتعاطف. وهذه أمور لا يمكن تحقيقها إذا كان الموظف مرهقًا من الداخل، يجرّ نفسه للعمل وكأنّه يسير في رمال متحركة.


الاحتراق الوظيفي لا يأتي فجأة. يبدأ بصمت. إرهاق لا يُقال، تعب لا يُشتكى، شعور متصاعد باللا مبالاة، ثم فجأة يفقد الموظف شغفه، ثم إحساسه بالقيمة، وأحيانًا حتى إنسانيته في التعامل. والسبب؟ غياب التوازن النفسي.

في بيئة مثل المستشفيات، حيث الألم والخوف والقرارات المصيرية، يحتاج الموظف إلى بيئة داعمة، تسمح له أن يتنفس، أن يخطئ أحيانًا دون أن يُجلد، أن يحصل على إجازة نفسية لا يُسأل فيها عن الإنتاج، أن يُعامل كإنسان لا كرمز وظيفي.

لا نقول إن التوازن النفسي يُلغي الضغوط، ولكنّه يمنح الموظف «مساحة داخلية» يتحرك فيها، يستعيد فيها طاقته، ويجدد إحساسه بالمعنى. هذا التوازن يأتي من أشياء بسيطة: دعم الزملاء، وضوح التوقعات من الإدارة، مساحات الحوار، والأهم: ثقافة مؤسساتية تعترف بأن الصحة النفسية لا تقل أهمية عن البدنية.

حين نعتني بصحة من يعتني بالناس، لا نفعل معروفًا، بل نبني نظامًا أكثر إنسانية وكفاءة. وعندما نمنح الموظف فرصة للحفاظ على توازنه، لا نحميه فقط من الاحتراق، بل نضمن نظامًا صحيًا أكثر استقرارًا وإنتاجية.

لكن دعونا نكن واقعيين، التوازن النفسي لا يُفرض بقرار إداري ولا يتحقق بشعار مكتوب على الجدران. هو نتيجة تراكمات يومية. يبدأ من نظرة المدير، من نبرة الزميل، من احترام الجدول، من تقدير الجهد، من تفهّم أن الموظف الصحي لديه حياة خارج أسوار المستشفى، وربما يعاني هو أيضًا من فقد أو ألم أو ضيق لا نعرفه.

هناك تفاصيل صغيرة تصنع فارقًا كبيرًا: كلمة شكر في نهاية المناوبة، غرفة استراحة حقيقية لا مجرد كرسي مكسور، برنامج دعم نفسي سري وآمن، تدريب دوري لاكتساب مهارات مواجهة الضغط، وحتى إتاحة مساحة للحديث الحر دون خوف من التقييم أو العقوبة. هذه التفاصيل هي التي تُبقي الروح متقدة.

وفي الوقت نفسه، على الموظف أن يكون واعيًا بصحته النفسية. لا ينتظر أن يصل إلى نقطة الانفجار كي يطلب المساعدة. أن يعرف متى يتوقف، متى يستريح، متى يقول «لا»، ومتى يحتاج أن يتحدث إلى مختص. الاعتراف بالتعب ليس ضعفًا، بل شجاعة.

ولأننا في زمن كثرت فيه التحديات الصحية، وتزايدت فيه الضغوط على القطاع الصحي، صار لزامًا على المؤسسات أن تضع التوازن النفسي كأولوية لا تقل أهمية عن التدريب السريري. لأن الجودة التي نبحث عنها في خدماتنا لا تبدأ من السياسات، بل من الداخل: من داخل الموظف.