كانت هناك - قبل خمسة أعوام تقريبًا - ندوة تلفازية اجتمع فيها بعض العلماء والمفكرين ليتحدثوا عن (الحج) وحكمته، أو فلسفته بالتعبير العصري.

وأساء فهم الحوار الدائر بين المتحدثين بعض الأدباء الذين استمعوا إلى الندوة، فكتب اعتراضًا في بعض الصحف يقول:

«إن الخلاف بين المتحاورين جذري.. فأحدهم يرى أن (الحج) عبادة وليس مؤتمرًا أي إنه عبادة روحية وبدنية، يشتغل الحاج فيها بالدعاء والتنقل بين المشاعر، وذكر الله، وتلاوة القرآن، والصلاة، والطواف، والسعي، ورمي الجمار - إلخ...


والآخر يرى أن (الحج) مؤتمر إسلامي بكل ما تحمله كلمة مؤتمر من المعاني..

انتهازًا للوجود الإسلامي المتكاثر في الحجاج على ألا يخل ذلك بأعمال الحج..

ثم يعقب المعترض على وجهتي النظر المختلفتين - في نظره - بقوله: ولو أننا تساهلنا فسمينا العبادات بغير أسمائها الحقيقية.. بالمصطلحات التي تطلق في البيئات السياسية أو الاجتماعية لأدى هذا التساهل إلى أن تترسب هذه المعاني الطائرة، فتترسب معها على مر الزمن مقاصد أخرى تنزع عن العبادات روح القداسة الإلهية، وتنحرف بها ألغى أغراضا أخرى، والمسألة ليست كما فهمها صاحبنا المعترض.

فالقول إن (الحج) عبادة محضة خطأ - كما أن الزعم بأنه مؤتمر إسلامي محض خطأ أيضًا..

وإنما القول الصائب: أن نفهم (الحج) وسائر الفرائض الأخرى كالصلاة، والصيام، والزكاة على إنها (عبادات) قصد الشارع من وراء الإلزام بها إلى (مصالح) أخلاقية واجتماعية واقتصادية وسياسية.

وعامة المسلمين - مع هذا الفهم المطلوب من سادتهم وكبراتهم وعلمائهم - ملزومون بالخضوع والتسليم بأداء هذه الفرائض... ولو لم يدركوا ما وراءها من مقاصد ومصالح، قد تتحقق لهم دون أن يريدوها أو دون أن يشعروا بها.

والقول: إن (الحج) مؤتمر إسلامي لا ينفي عنه أنه عبادة وطاعة وأعمال خاصة..

تؤدى بخضوع وخشوع، ورجاء في رحمة الله وثوابه تمامًا كالصلاة، والصوم والزكاة.

وزيادة في البيان نقول: إن للعبادات في الإسلام - كما للمعاملات والعقوبات - مقاصد تهدف إلى مصالح، وتدعو إلى مكرمات، وإذا كنا نذعن بأداء (الحج) كعبادة وطاعة وذكر لله بكيفية مخصوصة في أيام معدودات، يجب في الوقت نفسه أن ننتفع بمقاصده ومصالحه ومكارمه والقرآن الكريم صريح في التنبيه إلى (الانتفاع) بفرصة (الحج) مع التعبد المفروض أساسًا وابتداءً على المسلمين.

يقول تبارك وتعالى - في سورة الحج -: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق.. ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)، والمنافع - وإن فسرها بعض المفسرين أو معظمهم بالأعمال التجارية - إلا أنها تتسع لمعان وأبعاد ومجالات متعددة، فكل أمر أو عمل أو سلوك تتحقق به منفعة لجماعة المسلمين.. دينية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.. فذلك من (منافع) الحج لا ريب فيه. وليلاحظ صاحبنا المعترض أن كلمة (منافع) جاء بها القرآن الكريم نكرة وجمعًا في وقت واحد.. لتكون عامة شاملة لكل المصالح الإسلامية المحققة التى لا غبار على كونها منافع خالصة من كل الشوائب والأقدار.

وعلى هذا الأساس من الفهم الصحيح لمعنى العبادة إلزامًا ومقصدًا - قلنا إن على المسلمين وبخاصة قادتهم وسادتهم وكبراءهم وعلماءهم، أن ينتهزوا فرصة (الحج) ليجعلوا منها بعد أن يفرغوا من أعماله العبادية: مؤتمرًا إسلاميًا يتعارفون خلاله ويتعاونون على حل مشكلاتهم، وقضاء حاجاتهم والفصل بين المتخاصمين من حكوماتهم وشعوبهم، وبذل المساعدات المادية والثقافية لمن يفتقر إليها منهم.. حتى يكونوا كما وصف القرآن الكريم سلفهم الصالح: (أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون).

وكما قال عنهم في آية أخرى أيضًا: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

وليس (الحج) وحده هو المؤتمر الإسلامي الوحيد الذى نبه إليه الشارع الحكيم..

بل هناك مؤتمرات إسلامية أخرى، ولكنها محدودة: بكل بلد إسلامي، أو مدينة، أو قرية أو حى - فصلاة الجماعة مؤتمر، وصلاة الجمعة مؤتمر أكبر من الأول، وصلاة العيدين مؤتمر أكبر من الثانى - و(الحج) أكبرها جميعًا - وكلها مؤتمرات لصالح الجماعة الإسلامية، وتحقيق منافعها، والتعرف على مشكلاتها أو حاجاتها، والتعاون على البر والتقوى فيما بين أفرادها وأسرها.

فالإسلام - إذن - دين المقاصد والمصالح والمكارم التى يجب أن تتحقق لأتباعه، وليس دين العبادات المجردة من الأهداف والغايات ولا هو - كذلك - دين الطقوس والشكوك والتراتيل.

1975*

*كاتب سعودي «1925 - 1993»