مع اقتراب هذا الركن العظيم، تتجه أنظار العالم إلى مكة المكرمة، حيث تبذل المملكة العربية السعودية أقصى ما لديها من طاقات وإمكانات، لتُوفّر لحجاج بيت الله الحرام موسمًا آمنًا، ميسّرًا، رفيع التنظيم، يليق بمكانة الشعيرة وقدسية المكان، ويعكس هوية الدولة التي جعلت من خدمة الحرمين ميثاقًا تاريخيًا لا يُخَلّ؛ فمنذ أن تشرّفت المملكة بخدمة الحرمين الشريفين، أدركت أن تنظيم الحج ليس شأناً موسميًا عابرًا، بل مسؤولية ممتدة، تتطلب وعيًا سياديًا، وحضورًا إنسانيًا، وإدارة دقيقة للزمان والمكان والبشر، ولذلك لم تكن جهود مكافحة تسلسل الحجاج غير النظاميين في الأعوام الماضية بمثابة ردود أفعال، بل خطوات تصحيحية متأنية، عالجت ما ظهر من تجاوزات فردية أسهمت في إرباك التنظيم، وأرهقت المنظومة الخدمية، وهددت سلامة الحجاج أنفسهم، فكانت القرارات التصحيحية حاسمة، والنبرة الرسمية واضحة، وملخصها أن الحج لا ولن يُؤتى إلا من بابه.
هذا العام، بدا واضحًا أن المملكة قررت الانتقال من المعالجة إلى الوقاية، ومن الرقابة المتأخرة إلى الاستباق المحكم، إذ ظهرت بوادر التغيير مبكرًا، واشتدت وتيرتها مع منتصف شهر ذي القعدة، حيث لم يُترك مجال يُستغل، ولا ثغرة تُهمل، ولا تجاوز يُتغاضى عنه، وقد أحسّ بذلك كل من يسكن في مكة المكرمة، حين لمس الحزم في ضبط محاولات المخالفات، والتتبع الدقيق لأي تحايل على الأنظمة، والتعامل الجاد مع كل ما قد يعكر صفو النسك أو يُهدد أمن الحشود، في مشهد يُعبّر عن نضج إداري تراكم عبر عقود من الخبرة، وإرادة تنظيمية لا تقبل التهاون.
في مثل هذه المواسم الحساسة، حيث تتقاطع الأعداد الضخمة مع متطلبات السيادة والنظام، فإن الإجراءات الصارمة قد تُفهم أحيانًا خارج سياقها، أو تُتناقل بغير مقاصدها، لكن الواقع يؤكد أن ما يجري على الأرض من تنظيم محكم، يجمع بين الحزم والوعي، ويستمد توجيهاته من أصلٍ راسخ يوازن بين هيبة النظام ومراعاة الإنسان، ويجعل من تطبيق التعليمات مظهرًا من مظاهر الرحمة لا التشديد، خاصة حين يكون الهدف حماية الأرواح، وتنظيم الحشود، وصيانة شعيرةٍ لا تقبل الفوضى؛ ولذا، فإن شرط “لا حج بلا تصريح” لم يكن مجرد شعار، بل قاعدة نظامية أكدت عليها الدولة مرارًا، وترجمتها الجهات المختصة تطبيقًا لا استثناء فيه، انطلاقًا من أن كرامة الشعيرة لا تُصان إلا بالانضباط، وسلامة الحجيج لا تُحمى إلا بالعدالة في التنظيم، والتزام الجميع بالمسار الذي تفرضه الضرورة لا المزاج، والمصلحة العامة لا الاستثناءات.
المملكة العربية السعودية، بقيادتها ومؤسساتها وأبنائها، تُثبت عامًا بعد عام أنها أهل للأمانة، وجديرة بالخدمة، ومستحقة للثناء، إذ تبني تجربتها في إدارة الحج على خبرة تراكمية، ومبادئ ثابتة، وشعور عميق بأن خدمة الحرمين شرف لا يُطلب، بل يُؤدى، ومسؤولية لا تُختزل في اللحظة، بل تُحمل على مدى الزمان، بكل حب ويقظة واقتدار؛ وإن كان من كلمة ختامية تُقال في حضرة هذه الجهود المباركة، فهي الشكر والثناء والدعاء، بأن يكلّل الله هذه الجهود بالنجاح، وأن يرفع بمثل هذه المواسم صورة المملكة، ويثبتها في القلوب والعقول، كما أثبتها على أرض الواقع؛ مظلة أمن، وموطن قداسة، وقيادة رشيدة حكيمة تعرف متى تحزم، ومتى تُرفق.