وهؤلاء يجدون من يتلقفهم ليس من الناس بل من المنابر الإعلامية، حيث يُعد ضربُ المُسَلَّمات من الأمور المحببة لدى كثير منها، ولا سيما حين يكون المستهدَف هو «السلفية» أو كان المستهدِف من الذين ينتمون إليها في الأصل.
وقد سمعت أحدهم يدَّعي أن مستند السلفية هو حديث «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» -رواه مسلم، ثم أخذ يبطل الاستدلال بهذا الحديث، ويرى صحة شهادته لهم بالخيرية، لكن ذلك لا يدل على عصمة مذهبهم إذا اجتمعوا، ولا تزكية جميعهم، كما لا يدل على شيءٍ مما يستدل عليه السلفيون.
والحقيقة أن ما ذكره في قصر هذا الحديث على بعض معانيه باطل، لكننا لن نقف عنده، وذلك لأن السلفية لا تستند لهذا الحديث وحده، إذ السلفية لا يقصرون الاستدلال بهذا الحديث على صحة منهجهم؛ وإنما لهم أدلة أخرى أقوى وأعمق وأثقل في الميزان، ومنها: أن السلف هم الصحابة الذين شهد الله لهم بالجنة والعدالة، كما شهد لهم بصحة ما اجتمعوا عليه، قال تعالي: ﴿وَمَن يُشاقِقِ الرَّسولَ مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الهُدى وَيَتَّبِع غَيرَ سَبيلِ المُؤمِنينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَت مَصيرًا﴾ «النساء: 115».
وهذه من أعظم الآيات الدالة على صحة إجماعهم، وذلك أنهم هم المرادون بقوله تعالى «المؤمنون»؛ لأنهم هم المؤمنون حقًا، الذين ورد ذكرهم في قوله تعالى: ﴿وَالَّذينَ آمَنوا وَهاجَروا وَجاهَدوا في سَبيلِ اللَّهِ وَالَّذينَ آوَوا وَنَصَروا أُولئِكَ هُمُ المُؤمِنونَ حَقًّا لَهُم مَغفِرَةٌ وَرِزقٌ كَريمٌ﴾ «الأنفال: 74»، فهذه الآية واضحة في دلالتها على المهاجرين والأنصار، وبهذا فمن يُخالف ما اتفقوا عليه متوعدًا من عند الله وعيدًا عظيمًا، هذا غير الآيات العظيمات الكثيرات التي تشهد لهم برضى الله -سبحانه- وبجنته كقوله تعالى: ﴿وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنّاتٍ تَجري تَحتَهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ﴾ «التوبة: 100»، فشهادة الله -عز وجل- برضاه عنهم ورضاهم عنه، وأنه قد أعد لهم الجنات أعظم دليل على صحة ما اجتمعوا عليه، كما أنه -سبحانه- شهد أيضًا لهم شهادة عظيمة، وهي قوله: ﴿وَاعلَموا أَنَّ فيكُم رَسولَ اللَّهِ لَو يُطيعُكُم في كَثيرٍ مِنَ الأَمرِ لَعَنِتُّم وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيكُمُ الإيمانَ وَزَيَّنَهُ في قُلوبِكُم وَكَرَّهَ إِلَيكُمُ الكُفرَ وَالفُسوقَ وَالعِصيانَ أُولئِكَ هُمُ الرّاشِدونَ﴾ «الحجرات: ٧»، فهي شهادة بحب الإيمان وكره الكفر والفسوق والعصيان، فمن كانت هذه شهادة الله لهم، فكيف يترك قولهم وطريقتهم إلى طريقة غيرهم وقوله.
والآيات في تزكية الصحابة كثيرة جدًا، فإذا كانوا مزكين من عند الله فقد ائتمنهم على دينه، وهذا الائتمان دليل آخر على صحة قولهم وطريقتهم؛ ولذلك وصفهم الله بالخيرية في قوله ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنّاسِ تَأمُرونَ بِالمَعروفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنونَ بِاللَّهِ وَلَو آمَنَ أَهلُ الكِتابِ لَكانَ خَيرًا لَهُم مِنهُمُ المُؤمِنونَ وَأَكثَرُهُمُ الفاسِقونَ﴾ «آل عمران: 110»، ونحن وإنْ كنا نقول إن المراد بالآية المتقدمون والمتأخرون من أمة محمد، إلا أن من بعد الصحابة لا يكون كذلك حتى يكونوا على طريقة الصحابة، وهم أكمل الناس في مطابقة الآية لواقعهم، وما عملوه في هذه الأرض بعد الرسول -صلى الله عليه وسلم.
أما تميزهم عن غيرهم في الفقه وفي الحفظ فيشهد له قوله تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين..} الآية، فأنْ يقرن الله تعالى مشاقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي معاندته ومخالفته فيما جاء به بمخالفة المؤمنين الذين هم الصحابة فهذا أمر عظيم يدل على وجوب اتباعهم، والعمل على ما عملوا عليه عقيدةً وشريعة، وكلاهما شريعة، ولكن التفريق بينهما حادث في هذا الزمن لأسباب ليس هذا أوان الحديث عنها، ألمهم أن الله اختارهم ليكونوا هم المؤمنون حقًا.
وهذا الاختيار من الله تعالى دليل على سمة تميزوا بها، وهي العقل العظيم والعزيمة الصادقة، يشهد لهذا العقل وهذه العزيمة إيمانهم المبكر بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وتصديقه، ولا يقل أحد إن صدق الرسول -صلى الله عليه وسلم- واضح في رسالته، لأننا نقول: نعم هو واضح، لكن تأمله ومن ثَمَّ تصديق الرسول واتباعه، يحتاج إلى أن ينزع الإنسان نفسه من مجتمعه بالكلية وينزع نفسه من تاريخه ومن عاداته إلى شيء جديد لم يكن عليه الآباء والأجداد، وهذا الأمر لا يطيقه إلا ذوو العقل والعزم.
وقد أرشد الله قريشًا إليه لو كانوا يسمعون حين قال: ﴿قُل إِنَّما أَعِظُكُم بِواحِدَةٍ أَن تَقوموا لِلَّهِ مَثنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّروا ما بِصاحِبِكُم مِن جِنَّةٍ إِن هُوَ إِلّا نَذيرٌ لَكُم بَينَ يَدَي عَذابٍ شَديدٍ﴾ «سبأ: 46»، وهذا الأمر لم يستطعه الناس في ذلك العصر ولن يستطيعه أحد حتى في هذا العصر إلا أصحاب العقول الرواجح والعزائم العظيمة، وقد وُجد العقل الراجح عند الكثيرين ولم توجد العزيمة، فبقوا على كفرهم، ووجدت العزيمة دون العقل الراجح فكانوا كسابقيهم، فلما اجتمع العقل والعزيمة بادر صاحبهما بالإسلام، وبذلك نقول: «إن الصحابة هم أفقه الناس لاجتماع هذين الأمرين فيهما».
أما كون الصحابة أحفظ الناس، فيعود إلى عظم إيمانهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم، ولا أقول تصديقهم بالنبي؛ لأن الإيمان فوق التصديق، فهذا أحد ما يجعلهم يحرصون على كل كلمة تخرج من فيه الطاهر فيحفظونها، ويفقهونها ويعملون بها؛ والعمل بها أكثر عندهم من روايتها لورعهم وخوفهم من أن يَزلوا في نقل كلامه، فكان عملهم أكثر بكثير من روايتهم، وكان اتباعهم في العمل واجبًا إذا لم يكن قولاً مرويًا منهم عن رسول الله.
أما التابعون وتابعوهم فلا يكونون من السلف حتى يكونوا من التابعين على الحقيقة، أي بإحسان، كما قال الله تعالى فيهم {والذين اتبعوهم بإحسان}، وهو لفظ مطلق يدل على الإحسان في الإيمان والأقوال والأفعال، فمن كان هذا شأنه كان من السلف، فأصل السلفية هم الصحابة -رضي الله عنهم.
إذن فليس مستند السلفية حديثًا واحدًا كما زعم ذلك المتحدث بل آيات محكمات لا ينبغي لعاقل إغفالها.