في المساء، وعندما تغيب الشمس وتتوارى خلف الأفق، تاركةً خلفها وهج الغروب الخافت، يسود سكون ممزوج بحزن عميق. تتباطأ الأنفاس، وتتحول الأشياء من حولي إلى ظلال غامضة. إنها اللحظة التي يهمس فيها الظل بالرحيل؛ إحساسٌ مرٌّ وغريب لا يُطاق، يطرق أبواب القلب، ويغمره بالوحشة، ثم يتسلّل إلى حنايا الصدر دون رحمة.

ذلك الظل الذي رافقني طويلاً لم يكن مجرد ظل، بل كان روحًا تمشي على الأرض بخفة الإيمان وصدق النية. كان يحتضن القلوب بمحبة صادقة، دون أن ينتظر شيئًا في المقابل. يصل من قطعه، ويصفح عمّن أساء إليه، وكأن قلبه ممزوجٌ بدعاء لا ينقطع. يتجاوز صغائر الأمور، ولا يرد الإساءة بمثلها، بل يرى في العفو رفعة، وفي النقاء كرامة لا يدركها إلا من عاش بقلبٍ صافٍ، فلا يحمل في صدره ضغينة، ولا يسمح لصغائر النفوس أن تعكر صفوه.

في حضوره، كانت الأرواح تجد سكينتها، وفي دعائه، تطمئن القلوب. كان يذكّرني دائمًا أن الخير لا يُقاس بردّ الجميل أو بكثرة الشكر، بل بنقاء النية، وأن الصفح عن الناس قوة لا يجيدها إلا النبلاء. واليوم، حين يهمس هذا الظل بالرحيل، أشعر أن حياتي تفقد ركنًا من أركان الطمأنينة، وأن شيئًا عزيزًا يغادر بلا رجعة.


في ثنايا الرحيل، يتشكّل في داخلي شعور متداخل، كأن الفرح يمرّ خفيفًا على أطراف حزنٍ ثقيل. أبتسم والدمع في عيني، لأن القلب يحتفل ببداية جديدة، حتى وإن كانت تعني خسارة جزء من ذاتي. وفي أعماقي، صدى حزن لا يُصدق أن هذا النور سيغيب عن حياتي، ويواسيه صوت داخلي يقول: «الطيّبون لا يغيبون، إنهم يُخلّدون في الدعاء، ويحيون في قلوب من أحبوهم».

تمرّ اللحظات ببطء، وتتشبث التفاصيل الصغيرة بروحي كأنها ترفض الرحيل: مكانه الفارغ، تسامحه الصامت، دعاؤه الصادق. أراقب هذا الظل وهو يتلاشى، وأدرك أن بعض الفقد لا يُعوَّض، وأن بعض الغياب لا يُنسى.

وفي داخلي أُهمس بدعاء ويقينٍ صادق، أن يكون مقامك الجديد عامرًا بالمحبّة، كما كنت تزرعها، محاطًا بالفهم، كما كنت تبذله، دافئًا بالرحمة، كما كنت تمنحها. وحين يرحل الظل، لا نملك إلا أن نتسلّح بالصبر، ونمضي مطمئنين أن ما زرعته فينا من أثر سيظل حيًّا، وأن الخير الذي خلّفته سيقودنا دومًا نحو ضوء لا يخبو، وأمل لا يغيب.