عاهد طلال مداح نفسه دوما على السفر في ملكوت الحرف والسؤال، عبر اختياره قصائد عابرة لقارات القول، وتيمات عصية على التجنيس، ومفارقات ماكرة، يأخذنا عنوة إلى أشعار ومحكيات ومتابعات، تحكي عن «موتنا» ووفائنا، تفرح بحبنا وانتمائنا، تتواطأ مع انتظاراتنا وانكساراتنا، وفوق ذلك كله تسافر بنا بعيدًا في الذكرى وصدق الإحساس وطهره، لم يكن يومًا من تجار اللغة ولا من عرابيها، كان ولا يزال حتى وفاته- رحمه الله- فنانًا وملحنًا ألمعيًا، يكتب بسؤال الدهشة، أملًا في بلوغ المعنى أواللامعنى.
فطلال كالطفل في براءته، في حبه، في غضبه، وفي انسيابه، ينتقل عبر دروب اللحن والكلمات مرتكنًا إلى عفو الخاطر وإسعاف الذاكرة، يلتقط تفاصيل الأحاسيس، وهمس المشاعر، لينطق التفاصيل البكماء، من غير تزوير أو تحوير، نحو أسئلة الحب والوفاء والشغف والذات والوطن، نحو مدارات الهوية والانتماء، نحو جمر الاغتراب وعذابات البعد.
هنا نكتشف الفنان الذي يبدع في إبراز قدرات الشاعر، والملحن الذي يوجه خيوط الحكاية، نتعرف إلى مطرب رصين يعرف جيدا من أين تؤتى لذة الفن الأصيل، وكيف تتأسس جمالية الأضداد، وكيف تصير المحكيات متونًا مسافرة في تخوم اللغة والآداب والعلوم والفلسفة، وكيف يصير النص المحتمل، نصوصًا أخرى وعلامات مضيئة، ولا عجب في ذلك فهو المتعاون مع أعلام الشعر والشعراء، وكبار الملحنين، ومن الطبيعي أو غير الطبيعي أن تكون أغانيه نصوصًا متعددة في نص مختلف ومثير للإعجاب، تتزاوج فيه اللحن والكلمة بحلولية لا انفصام فيها.
تتجسد حكمة الفكرة والكلمة في مختلف أعماله، فهو فيلسوف ليس بدلالة اللفظ الرمزية، أو استعارته المكنية، بل وفق أسس فكرية، ولا أجدني أبالغ بالقول إن أغانيه جسدت التوجهات والتيارات والمدارس الفلسفية في أبدع وأبلغ وأعمق معانيها، المثالية في أغنية «أحبك كثر خطوات الثواني»، الواقعية في «وعدك متى؟»، الدوغمائية في «كل ما دقيت في أرض وتد»، العقلانية في «خلصت القصة»، التجريبية في «تصدق ولا أحلف لك»، الوضعية في «أحرجتني»، البراغماتية في «أغراب»، الرواقية في «مقادير»، التفكيكية في «مجروح وأئن»، البنيوية في «غريبة»، الطوباوية في «ماذا أقول»، الوجودية في «لا وعد»، الشكية في «الموعد الثاني»، الموسوعية في «رسالة حب»، النتشوية في «يا صاحبي»، البوهيمية في «يا موقد النار»، السوداوية في «تعالي».
لقد أسهمت إنتاجاته الفنية في كتابة اللحظة وتفكيكها بأدوات شعرية وشاعرية تمنح اللغة آفاقًا ومسالك غرائبية، وبلحن يراقصها باتزان، يدامع الحزن ويراقص الفرح.
هذا هو طلال مداح، فنان الإحساس والانتماء الملتهب، الأب المؤسس لتاريخ فني عريق، ومدرسة مستقلة من التفرد والعطاء، لهذا كانت ألبوماته، ولا تزال، عنوانًا لمشاعر لم تكتب بعد، كلمات ظلت حبيسة المسافة ما بين الإحساس والصوت، فهو قبلًا وبعدًا ملحن ومطرب استثنائي، غير معني بالظهور السريع، أرستقراطي في اختياراته وبروليتاري في معاملاته، وحين تكتمل الأغنية، تأسر، تقلق، وتنتقل بسامعها إلى مدارك أعلى وسقف لا أفق بعده، وكأنه يستعيد ما قاله نيتشه: «لست مسؤولًا عن كل هذا الدمار والساعة ساعة شك».
قبل سنتين، جاء تكريم الراحل طلال مداح من طرف الهيئة العامة للترفيه في المملكة العربية السعودية، بحفل «ليلة صوت الأرض»، تتويجًا لمسيرة غنية لاتزال لليوم تتحفنا بالإبداع والعطاء، وتأريخًا لشخصية نقشت بذاكرة الزمن، هو باختصار فيلسوف غدا رمزًا، والرمز لا يفنى ولا يموت.
فإذا كانت مهمة الفيلسوف هي الاستنطاق الصارم والمنهجي للأفكار لصناعة الحكمة، فإن طلال مداح كان يداعبها باللحن والكلمة والصوت، فتأتي إليه خاضعة، طائعة ومنقادة.
رحمه الله.