الفن المحترم هو ترجمة أنيقة لأسمى مكنونات النفس البشرية وما تجيش به من حب أو ألم أو معاناة أو حتى بهجة، ووحدهم المبدعون من الفنانين من يستطيعون حمل هذه الرسالة ونقلها إلينا بصدق يلامس الأعماق.

وإن كان ثمة رسالة فريدة نقلها الفن العربي، فإن من أبلغها وأنقاها هي تلك التي أبدعها عازف العود العراقي نصير شمة عبر "العامرية"، مستلهما معزوفته من هول القصف الجوي الأميركي الذي مني به مخيم اللاجئين في العامرية ببغداد، وراحت ضحيته مئات الأنفس البشرية البريئة، أغلبهم من النساء والأطفال.

ولأن الإبداع يولد - غالبا - من رحم المعاناة، فإن ما نثره عود نصير شمة من خلال مقطوعته الإنسانية، لم يكن عابرا، فعندما ترهف سمعك منصتا إلى المقطوعة ستكتشف أن العازف لم يكن الشاهد الوحيد على الجريمة، بل شاركه العود أيضا، فقد بدا العود وكأنه أحد اللاجئين، في نغمته أنين الثكالى، ولأوتاره حكمة الناجين من الهلاك، تشعر أنه كان ضمن الفزعين من أصوات صافرات الإنذار، كان يبكي مع الأمهات مرارة الفاجعة، ويقاسم الأطفال ما يهبط على أرواحهم من موت مجاني... لقد كان يصرخ.. يصرخ بألم شفيف، وعذب جدا، وكان الجميع يسمعه.

سافر بنا شمة من عالم الطرب الملازم للعود، إلى الوصف المسرحي للمشاهد، مستفتحا معزوفته برسم الحياة الطبيعية للاجئين، ثم محاكاة مشاهد الرهبة والترقب الممزوجة بالنظرات الخائفة من المستقبل، ووصولا إلى القصف المرافق للصراخ والوجع والهلع والموت، ثم تخفت الأصوات المرعبة، وتنطفئ الأرواح التي كانت تنبض بالحياة، ويخيم الموت على المكان.

اسمعوا المعزوفة، فهي أبلغ من كل ما يقال عنها، اسمعوها وستعرفون أن العود لا يستطيع التحدث بهذه الفصاحة ما لم يكن بين يدي فنان بحجم نصير شمة.