هناك فجوة كبيرة بين من يُعاني مما سبق ومن لا يفهمه، خصوصًا أن ليس كل أحد يستطيع أن يسمع الضجيج الذي يدور في رأس غيره، ولا يستطيع أحد أن يعلم كم فكرة اقتحمت ذهن الآخر، وجعلته يقف في وسط عقله، وكأن شيئًا داخليًا يشده للوراء، وكأن التفكير كثير وثقيل، رغم أن المشكلة ليست في الإنجاز، بل في القدرة على البدء، وليست في الوصول، بل في الخطوة الأولى.
الفجوة السالفة الذكر تتسع عندما ينظر المعافى إلى تأخر من يعاني فيظنه تهاونًا منه، ويحسب تصرفاته استهتارًا؛ والحقيقة أن المسألة تتلخص في أن هناك من لا يستطيع الإنجاز إلا في اللحظة الأخيرة، لا لأنه يحب التأجيل، بل لأن تركيزه لا يأتي إلا تحت ضغط، وهناك من لا يثبت في مكانه، لا لأنه غير منضبط، بل لأن فرط الحركة ألجأه إلى ذلك، وهناك من يتعبه الواجب البسيط، ويُرهقه التذكير، وهناك من يتأخر في الرد، لا لأنه يتجاهل، بل لأنه ينسى أنه نسي؛ والأصعب من كل ذلك، أن لا أحد يشعر به، أو يُدرك حجم الصراع الذي يعيشه في صمت، بل إن بعضهم لا يُصدَّق حين يشرح، ويُستكثر عليه حتى العذر، لأنه لا يبدو عليه شيء؛ لا مرض ظاهر، ولا عذر معلن، ولا ضعف بيّن، وإنما قلب مثقل، وعقل لا يهدأ، وهمّ لا يُشرح.
فهم الإنسان للإنسان أحد أشرف وأندر ما في العلاقات، ولا أقصد هنا الفهم الذي ينبني على الظاهر، ولا الذي يبحث عن تفسير جاهز، بل الفهم الذي يتأنى، ويصبر، ويحاول أن يرى من الداخل لا من الخارج، وأن يسمع ما لم يُقال، لا ما يُقال فقط، وليس معنى أن تفهم غيرك أن تبرر له كل شيء، أو تتساهل معه دائمًا، لكنها دعوة للتوسع في وضع الاحتمالات والافتراضات لما لا تعرف، فالناس لا تحتاج فقط إلى من يُواسيها حين تصاب، بل إلى من يُقدّرها حين تضعف، ويحتويها حين تضطرب، ويصبر عليها حين لا نُجيد تفسير ما يجري فيها، وهذا الفهم قد لا يوجد دائمًا، لكنه حين يوجد، يكون أعظم من كل وصفة، وأشفى من كثير من العتاب.
أخيرًا.. إن فهم الإنسان للإنسان ليس علمًا يُتعلم فقط، بل خُلُق يُنبت في القلب، ويد لا تكتب، بل تربت على كتف تُدرك أن حمله ثقيل، ولا بد من الاقتناع أننا في حياتنا لا نعيش من أجل إعادة تشكيل غيرنا، وأننا لا نعفى من محاولة فهم الآخرين، والرفق بمن يحاول، وتوضيح العواقب، وعدم إصدار الأحكام أو استباق الأمور، وتخفيف النزاع، والاقتصاد في العتاب، وما يؤدي إلى الإحباط والمشاعر السلبية، ووضع الخطط، وتنظيم المهام.