ويكشف تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الصادر في 22 مايو 2025 أن العالم يهدر ما قيمته نحو تريليون دولار من الغذاء كل عام، أي ما يعادل خُمس المعروض العالمي من السعرات الحرارية، في وقتٍ تتزايد فيه الفجوة الغذائية بين الشمال والجنوب. هذا النزيف الاقتصادي والبيئي يولّد ما بين 8 و10% من الانبعاثات العالمية، ويُفاقم أزمة الأمن الغذائي في الدول الأكثر هشاشة.
الصورة العالمية
تُظهر بيانات منظمة الأغذية والزراعة أن 13.3% من الغذاء يفقد بعد الحصاد وقبل البيع بالتجزئة، بينما يُهدر 17% عند التخزين والتوزيع والاستهلاك بسبب ضعف البنية التحتية وسلوكيات الشراء المفرط. هذا الفاقد يطلق انبعاثات تعادل ما تنتجه صناعة الطيران سنويًا ويستنزف الموارد المائية المحدودة.
في المقابل، ما يزال 783 مليون شخص يفتقرون إلى وجبة كافية كل يوم. وتشير نماذج التكلفة-العائد لدى المنظمة إلى أن كل دولار يُستثمر في التغليف الذكي أو خدمات التبريد يدرّ 4 دولارات وفورات موزَّعة بين قيمة الغذاء المستعاد والتكاليف البيئية والصحية المتجنَّبة. تحقيق هدف التنمية المستدامة 12.3 ـ خفض الفقد والهدر إلى النصف بحلول 2030 ـ كفيل بإطعام 137 مليون إنسان وخفض الانبعاثات الزراعية 4%.
ريادة سعودية
رغم اعتماد المملكة على استيراد أربعة أخماس غذائها، فقد وظّفت هذا الاعتماد لحشد استثمار تقني وبنيوي غير مسبوق.
منذ 2021 نشر برنامج الحد من الفقد والهدر أكثر من 11 ألف وحدة تبريد متنقلة في أسواق الجملة، فقلّل تلف اللحوم 18% وخفّض خسائر صغار التجار بنحو 150 مليون ريال.
وفي 2024 دشّن مختبر الذكاء الاصطناعي الغذائي الذي طوّر خوارزميات تتوقع الطلب اليومي بدقة 92%، فوفّر لسلاسل التجزئة 430 ألف طن طعام خلال عام.
ميدانيًا، أعاد تطبيق «وفّرها» توزيع 56 مليون وجبة منذ إطلاقه، بينما وسّعت المؤسسة العامة للحبوب مصانع تدوير بقايا الخبز إلى أعلاف، ما خفّض واردات الذرة الصفراء 3% في 2024 وأرسى دعائم اقتصاد دائري متكامل.
مكاسب بيئية
لا تقف الأرباح عند المال؛ فالطن المُنقَذ يمنع إطلاق 2.5 طن مكافئ ثاني أكسيد الكربون ويوفّر 1800 متر مكعب من المياه الافتراضية. سيناريو خفض 50% لدى المنظمة يوضح أن السعودية ستقلّل الحاجة إلى الأراضي الزراعية 0.8% وتخفّض الضغط الإقليمي على المياه 1.4%. هذه الوفورات تسهم في استعادة أراضٍ رعوية متدهورة، وتعزّز رصيد المملكة من أرصدة الكربون في الأسواق الطوعية، ما يدعم هدف الحياد الصفري بحلول 2060.
كما تسوّق المملكة هذه الوفورات لشركات إنتاج الأسمدة العضوية والغاز الحيوي، لتنويع مصادر الدخل الريفي وخلق وظائف خضراء للشباب السعودي.
مكامن الفرص
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يرفع المناخ الحار وانقطاعات الكهرباء نسبة الفاقد في الخضروات والفواكه إلى 25%. ومع ذلك، تُبرز جداول المنظمة ميزة كلفة لافتة: خفض الطن الواحد من الفاقد يكلّف 254.7 دولارًا في السعودية، و200 دولار في إيران، و109 دولارات في تركيا، مقابل متوسط عالمي يناهز 500 دولار. تُظهر محاكاة المنظمة أن تقليص الهدر 40% سيرفع السعرات المتاحة للفقراء 11% ويخفض الانبعاثات 5%، ويعزّز التجارة البينية للمنتجات الزراعية، ما يرفع مرونة الأسواق أمام الصدمات ويمنح الحكومات مساحة أوسع لضبط الأسعار وحماية المستهلكين.
خريطة مرتكزها السعودية
ورسم خبراء المنظمة خريطة طريق رباعية:
وهي:
أولاً: إنشاء منصة بيانات بمعيار SIPPOC تحدّث مؤشرات الهدر شهريًا وتتيح للباحثين والمستثمرين تتبّع الأداء.
ثانيًا: حوافز ضريبية تصل إلى خصم 15% للشركات التي تخفض هدرها أكثر من 30% سنويًا، مع تدقيق مستقل لمنع الغسل الأخضر.
ثالثًا: إنشاء صندوق إقليمي بقيمة 500 مليون دولار تقوده السعودية لتمويل مشروعات الحد من الفقد في اليمن والسودان، مضاعفًا الأثر الإنساني والقوة الناعمة الاقتصادية.
رابعًا: رسوم تصاعدية على النفايات الغذائية غير المُعالجة، تُخصَّص حصيلتها لدعم البحث والتطوير وتوسيع مشاريع الاقتصاد الدائري في المدن.
استثمار ورسالة سعودية
أثبتت التجربة السعودية أن الجمع بين الإرادة السياسية، والابتكار التقني، والحوافز المالية، قادر على تحويل الطعام الضائع من كارثة صامتة إلى محرك نمو أخضر. ومع اقتراب محطات تنفيذ رؤية 2030، تبدو المملكة مستعدة لتصدير نموذج يعيد تعريف العلاقة بين الغذاء والبيئة والتنمية إقليميًا ودوليًا. إن إنقاذ كل وجبة اليوم ليس فعلًا خيريًا فحسب، بل استثمارًا في صحة البشر واستدامة الكوكب، ورسالة واضحة بأن الأمن الغذائي يمكن أن ينتقل من عبء ثقيل إلى فرصة اقتصادية عادلة تعود بالنفع على أجيال الغد.